قال القرطبي : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً، فقال : كذبت، ليست عليك بحرام، ثم تلا :﴿ يا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية ﷺ قاله زيد بن أسلم وغيره ".
هذا كله في الزوجة، وأما الأمةُ [فليس] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين.
قال ابن العربي :" والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله، وهو الواحدة إلا أن يعدده، فكذلك إذا ذكر لتحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول : أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج، فهذا نصف في المراد ".
فصل في هذا الاستفهام قال ابن الخطيب : قال صاحب " النظم " : قوله :" لِمَ تُحَرِّمُ " استفهام بمعنى الإنكار، وذلك من اللَّه نهيٌ، وتحريم الحلال مكروه ؛ لأن الحلا لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى.
فإن قيل : قوله :﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي ﷺ ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم ؟.
فالجوابُ : إن هذه الخطاب ليس بطريق العتاب، بل بطريق لاتنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل : تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله ؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج ؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، فالنبي ﷺ امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً ؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر، فكيف يضاف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا ؟.
قوله :﴿تَبْتَغِي﴾.
١٩٠
يجوز أن يكون حالاً من فاعل " تُحَرِّمُ "، أي : لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك.
ويجوز أن يكون تفسيراً لـ " تُحَرِّمُ ".
ويجوز أن يكون مستأنفاً، فهو جواب للسؤال.
و " مَرْضَاتَ " اسم مصدر، وهو الرضا، وأصله " مرضوة ".
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول، أو للفاعل، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضِيْنَ.
والمعنى : يفعل ذلك طلباً لرضاهن ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ أي : لما أوجب المعاتبة ﴿رَّحِيمٌ﴾ برفع المُؤاخذِة.
قال القرطبيُّ :" وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة، ولا كبيرة ".
قوله :﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.
﴿فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي : بيَّن لكم، كقوله تعالى :﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور : ١] وقيل : قد أوجب الله.
وقال صاحب " النظم " : إذا وصل " فَرَضَ " بـ " عَلَى " لم تحتمل غير الإيجاب كقوله :﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب : ٥٠]، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.
قوله :﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.
تحليل اليمين كفَّارتها، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة " المائدة " :﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [الآية : ٨٩].
قال القرطبيُّ : وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول، أو المشروب لم يحرم عليه ؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً، وإن قال : نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال : كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يميناً، ويكون في الكفارة وجهان : قوله :﴿تَحِلَّةَ﴾.
١٩١
مصدر " حَلّل " مضعفاً، نحو " تكرمة "، وهذا ليسا [مقيسين]، فإن قياس مصدر " فَعَّلَ " " التفعيل " إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ.
فأما المعتل اللام نحو " زكَّى " ومهموزها نحو :" نبَّأ " فمصدرهما " تَفْعِلَةٌ " نحو :" تَزْكِيَةٌ، وتَنْبِئَةٌ ".
على أنه قد جاء " التفعيل " كاملاً في المعتل، نحو :[الرجز]
٤٧٨٤ - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٨٤