قوله :" ينقلبْ ".
العامة : على جزمه على جواب الأمر.
والكسائي في رواية برفعه.
وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة.
والثاني : أنه على حذف الفاءِ، أي : فينقلب.
د و " خَاسِئاً " حال وقوله :" وهُو حَسِيرٌ " حال، إما من صاحب الأولى، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها، فتكون متداخلة.
وقد تقدّمنا " خاسئاص " و " حسير " في " المؤمنين " و " الأنبياء ".
فصل في تفسير الآية لما قال :﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَـانِ مِن تَفَاوُتِ﴾ كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر، وارادد النظر مرة أخرى، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة.
قال القرطبي : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به، ويتفكَّروا في قدتره، فقال :﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ أي : اردُدْ طرفك إلى السماء، ويقال : قلَّب بصره في السماء، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء، والمعنى متقارب، وإنما قال :" فارْجع " - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور ؛ لأنه قال :" مَا تَرَى " والمعنى : انظر، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ، قاله قتادة.
قال مجاهد والضحاك : و " الفطور " الشقوق.
وقال قتادة : من خلل.
وقال السديُّ : من خروق.
٢٣١
وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهِنٍ.
وقوله :﴿ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ في موضع المصدر ؛ لانمعناه : رجعتين.
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لايرى فيها عيباً، بل يتحيّر بالنظر إليها.
وقال ابن الخطيب :" معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل، والعيب بل يرجع إليك " خَاسِئاً " أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته، وطردته ".
وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى، وانخسأ الكلب أيضاً، وخسأ بصره أيضاً خَسْأ وخسوءاً، أي : ستر.
قال ابن عبَّاسٍ : الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى.
وقال المبردُ هاهنا : الخاسىء المبعد المصغر.
وقوله :" وهُو حَسِيرٌ " أي : قد بلغ الغاية في الإعياء، فهو بمعنى " فاعل " من الحسور الذي هو الإعياء، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ ؛ ومنه قول الشاعر :[البسيط] ٤٧٩٣ - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ
إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْلإُ قَدْ حُسِرَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٢٢
يقال : حسر بصره يحسر حسوراً، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبهه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر :[الطويل] ٤٧٩٤ - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مَنِى
فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ
وقيل هو النادم ؛ قال :[الرمل] ٤٧٩٥ - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ
يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِيرْ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٢٢
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، أي : السماء القربى ؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها " فعلى " تأنيث " فعل " التفضيل، " بِمصَابِيحَ " جمع مصباح وهو السِّراجُ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار.
قوله :﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ﴾.
الضمير في " وَجَعَلْنَاهَا " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه يعود على " مَصَابِيحَ ".
قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ، والكواكب في مكانه لا يرجم به.
قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى ؟.
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب.
والثاني : أن الضمير يعود على السماء، والمعنى : وجعلنا منها ؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم.
قاله أبو حيان.
وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء.
قال القرطبي : والمعنى جعلنا شُهُباً، فحذف المضاف، بدليل قوله ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات : ١٠]، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها.
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب.
وقال القشيريُّ : وأحسن من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين.
والرجوم : جمع رجمٍ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير.
٢٣٣