حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة، وكل من يدخل النار مخالف للدليل.
فصل في معرفة الله بعد ورود السمع واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم ؛ لأنه أتاهم النذير، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا.
قوله :﴿فَسُحْقاً﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على المفعول به، أي : ألزمهم الله سحقاً.
والثاني : أنه منصوب على المصدر، تقديره :" أسحقهم الله سحقاً " فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو " جَدْعاً له، وغفراً " فلا يجوز أظهار عامله.
واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي، أم لفعل رباعي، فجاء على حذف الزوائد.
فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر " أسْحَقهُ اللَّهُ " أي : أبعده.
قال الفارسي : فكان القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كقوله :[الوافر] ٤٧٩٩ -.........................
وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٣٣
أي : تقديري.
والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه سمع " سَحَقَهُ اللَّهُ ثلاثياً ؛ ومنه قول الشاعر :[الطويل] ٤٨٠٠ - يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً
وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قال ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقاً.
٢٤١
وقرأ العامة : بضم وسكون.
والكسائي وآخرون : بضمتين.
وهما لغتان، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف، و " لأصْحابِ " بيان كـ ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف : ٢٣]، وسقياً لَكَ.
وقال مكيٌّ :" والرفع يجوز في الكلام على الابتداء ".
أي : لو قيل :" فسحق " جاز، لا على أنه تلاوة، بل من حيث الصناعة، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه، لإإنه قال :" فسحقاً، نصباً على جهة الدعاء عليهم، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول : سُحْقاً لزيد، وبُعْداً له، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، فما ما وقع وثبت، فالوجه الرفع، كما قال تعالى ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين : ١] و ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام : ٥٤]، وغير هذا من الأمثلة "، انتهى.
فضعف الرفع كما ترى ؛ لأنه لم يقع، بل هو متوقع في الآخرة.
فصل قال المفسِّرون :﴿فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، أي : فَبُعْداً لهم من رحمة الله.
وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح : هو واد في جهنَّم يقال له : السحق.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٣٣
قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ﴾، نظيره :﴿مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ﴾ [ق : ٣٣] وقد
٢٤٢