قال ابن الخطيب :﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكت بكل قلم وقيل : المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في " يَسْطرُونَ " لهم، كأنه قيل : وأصحاب القلم، وسطرهم، أو مسطوراتهم، وإن حمل على القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله " ومَا يَسْطُرونَ "، أي : وما يسطرون فيه، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله " يَسْطُرونَ " ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
قوله ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
قد تقدم الكلام على نظيره في " الطُّور " في قوله ﴿فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ﴾ [الطور : ٢٩].
إلا أن الزمخشري قال هناك " فإن قلت : بم تتعلق الباء في " بِنعْمَةِ ربِّك " وما محله ؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال كأنه قالك ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل " مَجْنُون " فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي ".
قال أبو حيَّان :" وما ذهب إليءهِ الزمخشيُّ، من أن الباء يتعلق بمجنون، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان : أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط.
والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفى معموله لانتفائه، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهي أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي : لا قيام، فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم " انتهى.
٢٦٦
واختار أبو حيان أن يكون " بِنعمَةِ " قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم.
وقال ابن عطية :" بنِعْمةِ ربِّك " اعتراض، كما تقول للأنسان : أنت بحمد الله فاضلن قالك ولم يبين ما تتعلق به الباء في " بِنعْمَةِ ".
قال شهاب الدين : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله، والباء سببية، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى، وأما المثال الذي ذكره، فالباء تتعلق فيه بلفظ " فاضل " وقد نحا صاحب " المُنَنتخَب " إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك، أي : والحمد لله ؛ وقول لبيد : الطويل] ٤٨٠٨ - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي
وفَارقَنِي جارٌ بأريدَ نَافِعُ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٦١
أي وهو أربد، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.
فصل في إعراب الآية قوله تعالى :﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾.
هذا جواب القسم، وهو نفي.
قال الزجاج :" أنت " هو اسم " مَا " و " مَجْنُون " الخبر، وقوله :﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ كلام وقع في الوسط، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس : أنه ﷺ غاب عن خديجة إلى حراء، وطلبتهن فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار، فقالت : ما لك ؟.
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق : ١]، فهو أول من نزل من القرآن، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضأ، وتوضأت، ثم صلى، وصليت معه ركعتين، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي ﷺ ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه
٢٦٧


الصفحة التالية
Icon