وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها، ولا يوقف على " يُبْصِرُونَ ".
وعلى الأوجه الأولى الثلاثة يكون " المَفْتُونُ " اسم مفعول على أصله، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله " المَفْتُونُ " سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا، لأن قوله ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ معلق بالاستفهام بعده، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيحِ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا، فكذلك الإبصار، لأنه هو الرؤية بالعين، فعلى القول بزيادة الباء، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب ؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار.
فصل قال القرطبيُّ :﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ بأيكم المفتون، الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى :﴿تَنبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون : ٢٠] و ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان : ٦]، وهو قول قتادة وأبي عبيدة كام تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة، والمعنى " بأيكم المفتون " أي : الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى : المفتون، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول، أي : عقل ولا جلادة، قاله الحسن والضحاك وابن عباس.
قال الراعي :[الكامل] ٤٨١٠ - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ
لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولاَ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٦١
أي عقلاً، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ.
وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار، إذا حميته، قال تعالى ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الذاريات : ١٣] أي : يعذبون وقيل : المفتون : الشيطان ؛ لانه مفتون في دينه، وكانوا يقولون : إن به شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غداً بأيهم [المجنون] أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
قوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾.
أي : إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، أي : الذين هم على الهدى، فيجازي كلاًّ غداً.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٦١
قوله :﴿فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف
٢٧٢
عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر، وقال تعالى :﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ [الإسراء : ٧٤] وقيل : فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
قوله :﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾.
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم :" فَيُدهِنُونَ " بثبوت نون الرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على " تُدهِنُ " فيكون داخلاً في حيز " لَوْ ".
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : فهم يدهنون.
وقال الزمخشريُّ :" فإن قلت : لم رفع " فَيُدْهنُونَ " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني ؟.
قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون، كقوله :﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن : ١٣] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا " انتهى.
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان : أحدهما : أنه عطف على التوهم، كأنه توهم أن نطق بـ " أنْ " فنصب الفعلعلى هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية " لَوْ "، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في " البقرة ".
والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من " ودّ ".
والظاهر أن " لَوْ " حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن جوابها محذوف ومفعول الوادادة أيضاً محذوف، تقديره : ودوا إدهانك، فحذف إدهانك، لدلالة " لَو " وما بعدها عليه وتقدير الجواب : لسروا بذلك.
فصل في معنى الآية قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أرضاً : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك.
والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين.
قاله الفراء والليث.
٢٧٣


الصفحة التالية
Icon