قال :" لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته ".
وقرأ الحسن بن أبزى : بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ، على قوله حين تليت عليه آيات الله :﴿أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾.
فصل في توجيه قراءة الآية قال القرطبيُّ : فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ، أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على " زَنِيمٍ "، ويبتدىء " أنْ كَانَ " على معنى : لأن كان ذا
٢٨٢
مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير : لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ " أن كَانَ " بغير استفهامِ، فهو مفعول من أجله، والعامل فيه مضمر والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل :﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ ولا يعمل في " أن " :" تُتْلَى " ولا " قَالَ "، لأن ما بعد " إذَا " لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن " إذَا " تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و " قال " جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباريُّ : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على " زَنيمٍ " لأن المعنى : لأن كان ذا مالٍ كان، فـ " أنْ " متعلقة بما قبلها.
وقال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله " مشَّاءٍ بنمِيمٍ "، والتقدير : يمشي بنميم، لأن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن يتعلق بـ " عُتُل " ومعنى " أسَاطيرُ الأوَّلينَ " أباطيلهم، وتُرهاتُهُم.
قوله :" سَنَسِمُهُ ".
أي : نجعل له سمة، أي : علامة يعرف بها.
قال جرير :[الكامل] ٤٨١٨ - لمَّأ وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي
وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ
والخرطوم : الأنف، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء ؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والخرطوم أيضاً : الخمر، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال : هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن ؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر، قول علقمة بن عبدة :[البسيط] ٤٨١٩ - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ
لقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٧٢
وأنشد نضر بن شميل :[البسيط] ٤٨٢٠ - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ
وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ
٢٨٣
فصل في تفسير " سنسمه " قال ابن عباس :" سَنَسِمُهُ " سنحطمه بالسَّيفِ، قال : وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف، فلم يزل محطوماً إلى أن مات.
وقال قتادةُ : سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها، يقال : وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
قال الشحاك : سنكويه على وجهه، وقد قال الله تعالى :﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران : ١٠٦] فهي علامة ظاهرة، وقال تعالى :﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾ [طه : ١٠٢] وهذه علامة أخرى ظاهرة.
وأفادت هذه الآية علامة ثالثة، وهي الوسم على الأنفس بالنار، وهذا كقوله :﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن : ٤١].
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ :﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾ أي على أنفه : ويسودُّ وجهه في الآخرة، فعرف بسواد وجهه.
قال القرطبيُّ :" والخرطوم : الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم : سادتهم ".
قال الفراء : وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبريُّ : نبين أمره تبياناً واضحاً، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم.
وقال : المعنى : سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي : تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء، أي : ألصق به عار لا يفارقه، كام أن السمة لا يمحى أثرها.
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
٢٨٤
وقيل : ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه ؛ وأهله وماله من سوء، وذلك وصغار، قاله ابن بحر.
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم : الخمر، وجمعه : خراطيم، وأنشد البيت المتقدم.
قال ابن الخطيب :" وهذا تعسفٌ.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٧٢


الصفحة التالية
Icon