قوله :" عِندَ ربِّهِمْ ".
يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً من " جنَّاتِ ".
فصل في رد كلام القاضي قال القاضي : في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، والفاسق لما كان مجرماً، وجب أن لا يكون مسلماً.
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما متماثلان في الجوهرية، والجسمية، والحدوث، والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد : إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثارِ هذين الأمرينِ، فالمراد : أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرمِ عند الله، وهذا لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومرجماً ؟.
فصل في رد كلام الجبائي قال الجبائيُّ : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم، وكانت طاعته غير محبطةٍ.
والجوابُ : هذا ضعيفٌ، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة، لأن حمل الجميع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق شهور في اللغة والعرفِ.
قوله :﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ﴾.
أي : ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي.
وهذا كقوله ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الصافات : ١٥٦ - ١٥٧].
قوله :﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ﴾.
العامة على كسر الهمزة، وفيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنها معمولة لـ " تَدْرُسُونَ "، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة، كقولك : علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر -.
والثاني : أن تكون على الحكاية للمدروسِ كما هو، كقوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ
٢٩٥
سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات : ٧٨، ٧٩]، قالهما الزمخشري.
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ، قال :" وتخير الشيء واختاره، أخذ خيره، كتنخله وانتخله، أخذ منخوله ".
الثالث : أنها على الاستئناف على معنى " إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير ".
قال القرطبي : تم الكلام عند قوله " تَدْرسُونَ " ثم ابتدأ فقال :﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ أي : إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون، أي : ليس لكم ذلك، والكناية في " فِيْهِ " الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
وقرأ طلحة والضحاك :" أنَّ لَكُمْ " بفتح الهمزة.
وهو منصوب بـ " تَدْرسُونَ " إلا أن فيه زيادة لام التأكي، وهي نظير قراءة ﴿إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان : ٢٠] بالفتح.
وقرأ الأعرج وابن هرمز :" أإنَّ لَكُمْ " في الموضعين، يعني " أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ " " أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ " بالاسفتهام فيهما جميعاً.
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال :﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ﴾، أي : عهود ومواثيق ﴿عَلَيْنَا بَالِغَةٌ﴾ مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى، أي : أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتهم به في أن يدخلكم الجنة.
قال ابن الخطيب : والمعنى : أم ضمنا لكم، وأقسمنا لكم بأيمان مغلطة متناهية في التوكيد.
قوله :" بَالِغَةٌ ".
العامة على رفعها نعتاً لـ " أيْمَانٌ " و ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ متعلق بما تعلق به " لَكُمْ " زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم، أو " ببالغة "، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم، وتنتهي إليه.
وقرأ زيد بن علي والحسن : بنصبها.
فقيل : على الحال من " أيْمَانٌ " لأنها تخصصت بالعمل، أو بالوصف.
وقال القرطبيُّ :" على الحال من الضمير في " لَكُمْ " لأنه خبر عن " أيمانٌ " ففيه ضمير منه، وإما من الضمير في " عليْنَا " إن قدرت " علينا " وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس
٢٩٦