وقوله :﴿أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾، أي : في الآخرة ولم أنكرْ البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة.
قوله :﴿رَّاضِيَةٍ﴾، فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية ؛ لمحلها في مستحقيها، وأنها لا حال أكمل من حالها، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.
الثاين : أنه على النَّسب، أي : ذات رضا، نحو :" لابنٌ وتامرٌ " لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها.
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه " فاعل " بمعنى مفعول نحو :﴿مَّآءٍ دَافِقٍ﴾ [الطلاق : ٦]، أي : مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى فاعل، كقوله :﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء : ٤٥]، أي : ساتراً.
فصل في تنعم أهل الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام :" إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ ابداً، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً " قوله :﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾، أي : عظيمة في النفوس، ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾، القطوف جمع : قطف، وهو فعل بمعنى مفعول، كـ " الدَّأعْي " و " الذِّبْح "، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار، و " دَانِيَةٌ "، أي : قريبة التناولِ يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع.
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف.
﴿كُلُواْ﴾، أي : يقال لهم : كلوا واشربوا، وهذا أمر امتنان، لا أمرُ تكليف.
وقوله :" هنيئاً " قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ، أي :" أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً "، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر، أي :" هَنِيئتُم بذلك هَنِيئاً ".
و " الباء " في " بما أسْلفتُمْ " سببية، و " ما " مصدرية أو اسمية، ومعنى " هَنِيئاً "، لا تكدير فيه ولا تنغيص، " بما أسْلَفْتُم " قدمتم من الأعمال ﴿فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾، أي : في الدنيا.
قالت المعتزلةُ : وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ، وأن الفعل للعبدِ، وقال :" كُلُوا " بعد قوله :﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ لقوله :﴿فأما من أوتي كتابه﴾، و " من " تتضمنُ معنى الجمعِ.
٣٣٤
فصل فيمن نزلت فيه الآية ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد ي قول ابن عبَّاس والضحاك.
قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى :﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾.
وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله :﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول :﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ ثُم يتمنَّى الموت، ويقول :﴿يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾.
فالضَّميرُ في " لَيْتهَا " قيل : يعود إلى الموتةِ الأولى، وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.
و " القَاضِيَة " : القاطعةُ من الحياة، قال تعالى :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ﴾ [الجمعة : ١٠]، ويقال : قُضِيَ على فلان، إذا مات، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري، ولم أبْعَثْ بعدها، ولم ألقَ ما وصلت إليه.
قال قتادة : يتمنى الموت، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت ؛ قال الشاعر :[الطويل] ٤٨٥٠ - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ
تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ، والمَوْتُ أعْظَمُ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣١٩
وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ.
قوله :﴿مَآ أَغْنَى عَنِّي﴾، يجوزُ أن يكون نفياً، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه، أي : أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار.
﴿هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ قال ابن عباس : هلكتْ عنِّي حُجَّتِي، والسلطانُ : الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك.
٣٣٥
وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح.
وقال ابن زيد : يعني مُلكي وتسلّطي على الناس، وبقيت ذليلاً فقيراً، وكان مُطاعاً في أصحابه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣١٩