قوله :﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾.
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا : إن " لا " نافية لفعل القسم، وكأنه قيل : لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا ؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال :﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ﴾.
وقيل : المراد : أقسم، و " لا " صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول ؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين : مبْصر وغير مبصر، فقيل : الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن " لا " زائدة، فالتقدير : لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني " جبريل "، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يسغني عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل : سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنَّ محمداً ساحراٌ.
وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عقبة : كاهن، فقال الله تعالى :﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾ أي : أقسم.
٣٤٠
وإن قيل :" لا " نافية للقسم، فجوابه كجواب القسم.
" إنه " يعني القرآن " لقول رسول كريم " يعني جبريل.
قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله :﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ﴾ [التكوير : ١٩، ٢٠] وقال الكلبي أيضاً والقتبي : الرسول هنا محمد ﷺ لقوله :﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾، وليس القرآن من قول الرسول ﷺ إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا : هذا قول مالك.
فإن قيل : كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام ؟ فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغة لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد ﷺ بلغه للأمة.
قوله :﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ﴾ هو جوابُ القسمِ، وقوله :﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ﴾ معطوف على الجواب، فهو جواب : أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت، والآخر : منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله :﴿قَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.
انتصب " قليلاً " في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ :" يؤمنون " و " تذكرون " و " ما " مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية : ونصب " قليلاً " بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه :" تؤمنون "، و " ما " يحتملُ أن تكون نافية، فينتفى إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأششياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلة والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله ﷺ هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان : أما قوله :" قليلاً نصب بفعل " إلى آخر، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه " تؤمنون " إما أن تكون " ما " نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه " تؤمنون " المنفي بـ " ما " يكون منفياً، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي بـ " ما " لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز " زيداً ما أضربُه " على تقدير :" ما أضْربُ زيداً ما أضربه "، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ بـ " قليلاً " على الفاعلية، أي : قليلاً إيمانكم، ويبقى " قليلاً " لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
٣٤١
قال شهابٌ الدين : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ " تؤمنون " على الفعل المحذوف الدلالة على باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله :" زيداً ما أضربه " أي :" ما أضرب زيداً ما أضربُه " وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة " الأعراف " فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ :" والقّلةُ في معنى العدم، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة ".
قال أبو حيَّان : ولا يُرادُ بـ " قليلاً " هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في " أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ "، وفي " قل " نحو " قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ " وقد يستعمل في " قليلة "، و " قليلة " إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر :[الطويل] ٤٨٥٣ -...............
قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٤٠