فصل في إعراب الآية " جزُوْعاً، ومَنُوعاً " فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ : أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في " هَلُوعاً "، وهو العاملُ فيهما، والتقدير : هَلثوعاً حال كونه جَزُوعاً، وقت مسِّ الشِّرِّ، ومنوعاً وقت مس الخير، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين.
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال :" جَزُوعاً " حال أخرى، والعاملُ فيها " هَلُوعاً ".
فقوله :" أخْرَى " يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله : والعامل فيها هلوعاً.
والثاني : أن يكونا خبرين لـ " كان "، أو " صار " مضمرة، أي : إذا مسَّه الشَّرُّ كان، أو صار جَزُوعاً، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً، قاله مكيٌّ.
وعلى هذا فـ " إذا " شرطية، وعلى الأول ظرف محض، العامل فيه ما بعده كما تقدم.
الثالث : أنَّهما نعتٌ لـ " هَلُوعاً "، قاله مكيٌّ، إلاَّ أنَّه قال : وفيه بعد ؛ لأنك تنوي به التقديم بعد " إذا " انتهى.
وهذ الاسبعادُ ليس بشيءن فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله.
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت.
فصل في كلام القاضي قال القاضي : قوله تعالى ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ نظير قوله :﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء : ٣٧]، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة ؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله، ولأنه استثنى المؤمنين الذي جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى، لما قدروا على تركها.
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين : أحدهما : الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع.
والثاني : تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانية.
٣٦٨
فلا شك أنَّها تحدُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ.
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار.
فصل في المراد بالشر والخير في الآية قوله :﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾.
قيل : المرادُ بالخيرِ والشر : الغِنَى، والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى : أنَّه إذا صار فقيراً او مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل : حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ : إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قوله :﴿إِلاَّ الْمُصَلِّينَ﴾.
قال النخعيُّ : المرادُ بـ " المصلين " : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة.
وقال ابن مسعودٍ : هم الذين يصلونها لوقتها، فأمَّا تركها فكفرٌ.
وقيل : هم الصحابة وقيل : هم المؤمنون عامّةً.
قوله :﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ أي : على مواقيتها.
وقال عقبة بن عامر : الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً.
و " الدائم " الساكن، ومنه :" نهى عن البول في الماء الدائم "، أي : الساكن.
وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها.
فإن قيل : كيف قال :﴿عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ﴾ وقال في موضع آخر :﴿عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون : ٩].
٣٦٩