وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم، فقال :﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾، أي : من القذر، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ.
وقال قتادة في هذه الآيةِ : إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرِ من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ.
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشَّخيرِ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ، فقال له : يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟.
فقال له : أتعرفني، قال : نعم، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت تحمل العذرةَ، فمضى المهلَّب وترك مشيته.
قال ابن الخطيب : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً : أحدها : لما احتج إلى صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة.
وثانيها : أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى : إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار ؟ وثالثها : أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، ولم يتصفوا بالإيمان، والمعرفةِ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة ؟.
وقيل : معنى قوله :﴿خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ﴾، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ.
كقول الأعشى :[المتقارب] ٤٨٧٣ - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا
وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَازَا
أي : من أجل ليلى.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٧١
قوله :﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾.
قد تقدَّم.
وقرأ جماعة :" فلأقسم " دون ألفٍ.
٣٧٥
﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾، قرأ العامةَ : بجمع " المشارق، والمغارب ".
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة، وحميد : بإفرادهما، وهي مشارقُ الشمس ومغرابها.
وقوله :" إنَّا لقَادِرُونَ "، جواب القسم :﴿عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾ أي : نقدر على إهلاكهم، وإذهابهم، والإتيان بخير منهم، ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾، أي : لا يفوتنا شيء، ولا يعجزنا أمرٌ نريده.
قوله :﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ﴾، أي : اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد، واشتغل أنت بما أمرت به.
وقد تقدم تفسيره في سورة " الطور ".
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه، هل خرج إلى الفعل أم لا ؟.
فقيل : بدل بهم الأنصار والمهاجرين.
وقيل : بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.
وقيل : لم يقع هذا التبديلُ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا.
قوله :﴿حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾.
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر :" يَلْقُوا " مضارع " لَقى "، والمعنى : أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا، وهذه منسوخةٌ بآية السِّيف، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال :﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ﴾، يجوز أن يكون بدلاً من " يومهم " أو منصوب بإضمار " أعني ".
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر، وبني على الفتح : وإن أضيف إلى معرب، أي : هو يوم يخرجون، كقوله :﴿هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ﴾ [المائدة : ١١٩]، وتقدم الكلام عنه مشبعاً.
والعامة : على بناء " يَخْرجُونَ " للفاعل.
وقرأ السلميُّ والمغيرة، وروي عن عاصم : بناؤه للمفعول.
قوله :" سِراعاً "، حال من فاعل " يَخْرجُونَ "، جمعُ سِرَاع كـ " ظِرَاف " في " ظَريف "، و " كأنَّهُمْ " حال ثانية منه، أو حال من ضمير الحال، فتكونُ متداخلة.
٣٧٦
والأجداثُ : القبور، ونظيره، ﴿فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ [يس : ٥١]، أي : سِرَاعاً إلى إجابة الدَّأعي.
قوله :﴿إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾.
متعلق بالخبر.
والعامَّة : على " نَصْبٍ " بالفتح، وإسكان الصاد.
وابن عامر وحفص : بضمتين.
وأبو عمران [الجوني] ومجاهد : بفتحتين.
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم : بضم النون، وإسكان الصاد.
فالأولى : هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه.
وقال أبو عمرو : هو شَبكةُ الصَّائدِ، يُسْرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.
وأمَّا الثانية، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ : أحدها : أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.
وأنشد للأعشى :[الطويل] ٤٨٧٤ - وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ
لِعاقِبَةِ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٧٥


الصفحة التالية
Icon