ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، إنما زادهم أموالهم، وأولادهم خساراً ؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة، والدنيا في جنب الآخرة كاعدم، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة ؛ ولذلك قال جماعة : ليس لله على الكافر نعمة، وإنَّما هي استدراج للعذاب.
قال المفسِّرون : لبث فيهم نوحٌ - عليهم السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
قال ابنُ عباس : دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - ويقولون لأبنائهم : إياكم وأن تطيعوا هذا الشيه ؛ فيما يأمركم به، حتى بلغوا سبع قرونٍ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً، حتى كثر الناس وفشوا.
قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماورديُّ.
قوله " وولده " قرأ أهل " المدينة " و " الشام " وعاصم :" وَوَلَدُه " بفتح اللام والواو.
والباقون :" وَوُلْدُهُ " بضم الواو وسكون اللام، وقد تقدم أنهما لغتان كـ " بَخَل وبُخْل ".
قال أبو حاتم : ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح كـ " خَشَب وخُشْب ".
وأنشد لحسَّانٍ :[الكامل] ٤٨٨٢ - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا
مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٩١
قوله :﴿وَمَكَرُواْ﴾، عطف على صلة " من " لأن المتبوعين هم الذين مكروا.
﴿وَقَالُواْ﴾ للإتباع :﴿لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى، بعد حملها على لفظها في ﴿لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ﴾، يجوز أن يكون مستنفاً إخباراً عن الكفار.
قوله " كُبَّاراً "، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء، وهو بناء مبالغة أبغل من " كُبَار " بالضم والتخفيف.
قال عيسى : وهي لغةٌ يمانية ؛ وأنشد :[الكامل] ٤٨٨٣ - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى
خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ
٣٩٢
وقوله الآخر :[الكامل] ٤٨٨٤ - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي
بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ
ويقال : رجل طُوَال، وجميل، وحُسَّان، وعظيم، وعُظَّام.
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول.
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً : بكسر الكاف وتخفيف الباء.
قال أبو بكر : هو جمع كبير، كأنه جعل " مَكْراً "، مكان " ذُنُوب "، أو " أفاعيل " يعني فلذلك وصفة بالجمع.
فصل في المقصود بالمكر في الآية قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.
وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا، والولد، حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ.
وقال الكلبيُّ : هو ما جعلوه لله من الصحابة والولد، وهذا بعيد، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة.
وقال مقاتل : هو قل كبرائهم لأتباعهم :﴿لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً﴾، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار.
قال ابن الخطيب : وإنَّما سماه مكراً لوجهين : الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة، لاستمرارهم على عبادتها ؛ لأنها معبود بائهم، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين، وعلى آبائكم بأنهم كانوما كذلك، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة " آلهتكم " وصدفكم عن الدين ؛ فلهذا الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً.
٣٩٣
الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح [لا يعطيه شيئاً لأنه فقير] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح، وهو مثل مكر فرعون إذ قال :﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف : ٥١]، وقوله ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ﴾ [الزخرف : ٥٢، ٥٣].
قوله :﴿لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً﴾ [نوح : ٢٣] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون.
وقرأ نافع :" وُدّاً " بضم الواو، والباقون : بفتحها.
وأنشد بالوجهين قول الشاعر :[البسيط] ٤٨٨٥ - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا
لَهْوُ النِّساءِ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٣٩١