وقال أبو الفضل الرازي :" قرأ ابن يعمر وعكرمة :" سَبْخاً " - بالخاء المعجمة - وقالا : معناه نوماً، أي : ينام بالنهار ؛ ليستعين به على قيام الليل، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه ".
قال شهاب الدين :" في هذا نظرٌ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة ".
وقال ثعلب : السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب، والسبح : السكون ".
ومنه قول النبي ﷺ :" الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء "، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ.
وقال أبو عمرو : السَّبْخُ : النوم والفراغ، فعلى هذا يكون من الأضداد، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة.
قوله :﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.
وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك.
وقال سهل : اقرأباسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه.
وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده، ووعديه ؛ للتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته.
وقال الكلبي : صلِّ لربِّك، أي : بالنهار.
قال القرطبيُّ : وهذا حسن، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قيسمه، وقد قال تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ﴾ [الفرقان : ٦٢].
قوله :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾، هذا مصدر على غير المصدر، وهو واقع موقع التبتل، لأن مصدر " تفعَّل " نحو " تصرَّف تصرُّفاً، وتكرَّم تكرُّماً "، وأما " التفعيل " فمصدر " فعَّل " نحو " صرَّف تصريفاً ؛ كقول الآخر :[الرجز]
٤٩٢٥ - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ
فأوقع " الانفعال " موقع " التفعل ".
قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى " تبتَّل " بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل.
٤٦٦
والبَتْلُ : الانقطاع، ومنه امرأة بتول، أي : انقطعت من النكاح، وبتلت الحبل : قطعته.
قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء، وقالوا : طَلْقةً بَتْلةٌ، يعنون انقطاعها عن صاحبها، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح ؛ قال امرؤ القيس :[الطويل] ٤٩٢٦ - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها
مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٥٩
ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل، وقال :" يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ " والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح.
والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس، والجماعات، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد.
قاله ابن عرفة.
قال ابن العربي :" هذا فيما مضي، وأما اليوم، وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعُزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان، والأصنام، وعن عبادة غير الله.
وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصارة التبتُّلُ مأموراً به في القرآن، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا ااْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة : ٥]، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ، والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ".
قوله :﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾.
قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ : بجر " ربِّ " على النعت لـ " ربِّك "، أو البدل منه، أو البيان له.
وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسمِ، كقولك :" والله لأفعلنَّ " وجوابه " لا إله إلاَّ هُو "، كما تقول :" والله لا أحد ي الدار سوى زيد ".
٤٦٧
قال أبو حيَّان : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، لأن فيه إضمار الجار، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنها تنفى بـ " مَا "، وحدها، فلا تنفى بـ " لا " إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً، أو بماض في معناه قليلاً.
نحو قول الشاعر :[البسيط] ٤٩٢٧ - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً
مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ، والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها بـ " مَا " ؛ كقوله :[الطويل] ٤٩٢٨ - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ
ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٥٩


الصفحة التالية
Icon