والاستهزاء، وطلب الغَوَائل وغير ذلك، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والله أعلم.
فصل في ادعائهم الإيمان واليوم الآخر ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو : أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله، واليوم الآخر، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله، واليوم الآخر ؟ وأجاب فقال : إن حملنا على مُنَافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله - تعالى - لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان ؛ لأنّهم يعتقدونه جماً، وقالوا : عزيرٌ ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا : آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً ؛ لأنهم كانوا بقلولهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم : إنا آمنا بالله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله - تعالى - فيه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢٧
قوله :" يخادعون " هذه الجملة الفعلية يحتمل أن يكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو : ما بالهم قالوا : آمنا وما هم بؤمنين ؟ فقيل : يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواعقة صلة لـ " من " وهي " يقول "، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع، فهو نظير قوله :[الرجز] ١٨٢ - إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا
تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا
وقول الآخر :[الطويل] ١٨٣ - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا
تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
٣٣٥
فـ " تؤخذ " بدل اشتمال من " تبايع "، وكذا " تُلْمِم " بدلٌ من " تَأْتِنَا ".
وعلى هذين القولين، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب.
والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي : المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ " يقول " تقديره : ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن] في " بمؤمنين "، والعامل فيها اسم الفاعل.
وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه : أن هذه الآية الكريمة نظير :" ما زيد أقبل ضاحكاً "، قال : وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان : أحدهما : نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى : أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني : نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان.
٣٣٦
الطريق الثاني : أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق : لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً، أعني : نفي الإيمان والخداع معاً، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالاً من الضمير في " بمؤمنين ".
والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة لـ " مؤمنين " ؟ قال : لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالاً من ضمير " بمؤمنين "، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا.
و " الخداع " أصله : الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان : عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً : إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع : إذا كان مخالفاً للمقصد، بحيث لا يفطن له ؛ فمعنى يخادع : أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه.
وقيل : هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر :[الرمل] ١٨٤ - أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ
طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٣٥
أي : فسد.
ومعنى " يُخَادعون الله " أي : من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى.
وقيل : لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع.
وقال الزَّمخشري : إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم، والمعنى : يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب : أعجبني زيد وكرمه.
والمعنى : أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر " زيد " توطئةً لذكر كرمه.
وجعل ذلك نظير قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة : ٦٢]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب : ٥٧]، وهذا منه غير مُرْضٍ ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى.
وأما " أعجبني زيد وكرمه "، فإن الإعجاب أسند إلى " زيد " بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى :﴿وَمَلا اائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة : ٩٨].
٣٣٧


الصفحة التالية
Icon