وأيضاً : هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى ﴿وَقَالُواْ يا أيها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر : ٦] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله ﴿مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم : ٢]، وإذا كان كذلك، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام.
والجواب عن الأول : أنَّ قوله : لا وأبيك، قسمٌ عن النفي، وقوله :" لا أقْسِمُ " نفي للقسم، لأنه على وزان قولنا :" لا أقبل، لا أضرب، لا أنصر " وذلك يفيد النفي، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم، والحنث بفعل القسم، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب.
وعن الثاني : أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض، فإما أن يقرن في كل آية ماأقرن في الأخرى، فذلك غير جائز ؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً، وأنه لا يجوز.
وثالثها : أن المراد من قولنا :" لا " صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله - تعالى - بذلك لا يجوز.
الوجه الثالث : قال الزمشخري :" إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم ؛ قال امرؤ القيس :[المتقارب]
٤٩٨٠ - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري
البيت المقتدِّم.
وقال غويةُ بنُ سلمَى :[الوافر] ٤٩٨١ - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ
لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٤١
٥٤٢
وفائدتها : توكيد القسم في الردِّ ".
ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم : والوجه أن يقال : هي للنَّفي، والمعنى في ذلك : أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له، يدُلَّك عليه قوله تعالى :﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة : ٧٥ ٠ ٧٦] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
وقيل : إنَّ " لا " نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى.
قال ابن الخطيب : كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل :" لا " ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل : أقسم بيوم القيامة.
قال : وهذا فيه إشكال ؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى :﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام.
قال شهاب الدين رحمه الله :" فقول الزمخشري " : والوجه أن يقال إلى قوله : يعني أنه يستأهل فوق ذلك، تقرير لقوله : إدخال " لا " النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى ".
ثم قال : فإن قلت : قوله تعالى :﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء : ٦٥] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنَّ طلا " التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده، ومؤكدة له، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منياً كقولك : لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى ؟.
قلت : لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف نفى ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد : ١] بقوله :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾ [البلد : ٤] وكذلك قوله :﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة : ٧٥] بقوله :﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة : ٧٧]، وهذا من محاسن كلامه تعالى.
وقرأ قنبل والبزَّي - بخلاف عنه - :" لأقسم " بلام بعدها همزة دون ألف، وفيها أوجه : أحدها : أنها جوابٌ لقسم مقدر، تقديره :" والله لأقسم " والفعل للحالِ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وأمَّا البصريون : فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها
٥٤٣
وهذا عند بعضهم، من ذلك التقدير : والله لأنا أٌسم.
الثاني : أنه فعل مستقبل، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٍّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره، على أن سيبويه حكى حذف النون، إلا أنه قليل، والكوفيون : يجيزون ذلك من غير قلَّة، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله :[الكامل] ٤٩٨٢ - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ
فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٤١
أي لأثأرن، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر :[الطويل] ٤٩٨٣ - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ
ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ


الصفحة التالية
Icon