قال السديُّ : كانوا في الدنيا غذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي.
قوله تعالى :﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾.
أي : المنتهى.
[قاله قتادة، نظيره :" وأن إلى ربك المنتهى " ].
وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع، أي : المستقر في الآخرة حيث يقره الله.
و " المُسْتقَرُّ " مبتدأ، خبره الجار قبله، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار، وأن يكون مكان الاستقرار، و " يَوْمئذٍ " منصوب بفعل مقدر، ولا ينصب بـ " مستقر " أنه إن كان مصدراً لتقدمه عليه، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة.
قوله :﴿يُنَبَّأُ الإِنسَانُ﴾.
أي : يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة ﴿بِمَا قَدَّمَ وَأخَرَ﴾ أي : بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود.
وقال ابن عباس أيضاً : بما قدَّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد :" بِما قدَّمَ " مرة من أمواله لنفسه " وأخَّرَ " خلَّف للورثة.
وقال الضحاك :" بِما قدَّم " من فرض " وأخَّرَ " من فرض.
وقال مجاهد والنخعيُّ : يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره.
قال القشيري : وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت.
قوله :﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾.
يجوز في " بَصِيرة " أوجه : أحدها : أنها خبر عن الإنسان، و " على نفسه " متعلق بـ " بصيرة "، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه.
٥٥٥
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش : هو كقولك :" فلان عِبْرة وحُجَّة ".
وقيل : المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني : أنَّها مبتدأ، و " على نفسه " خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان : أحدهما : أن تكون " بصيرة " صفة لمحذوف، أي عين بصيرة.
قاله الفراء ؛ وأنشد :[الطويل] ٤٩٩٢ - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً
بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهُ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٥٠
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم
مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ
الثاني : أن المعنى جوارحُ بصيرة.
الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري :" بصيرة " : حُجَّة " بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ [النمل : ١٣].
قال شهاب الدين :" هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليه حقيقة ".
الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و " بصيرة " فاعل به، وهو أرجح مما قبله ؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.
فصل في تفسير الآية قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما :" بصيرة " : أي : شاهد، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النور : ٢٤].
قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.
٥٥٦
قوله :﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه﴾.
هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس كـ " ملاقيح ومذاكير " جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان : أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري :" فإن قلت : أليس قياس " المَعْذِرة " أن تجمع على معاذر لا معاذير ؟.
قلت :" المعاذير " ليست جمع " معذرة " بل اسم جمع لها، ونحوه :" المناكير " في المُنْكَر ".
قال أبو حيان :" وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير " انتهى.
وقيل :" مَعاذِير " جمع مِعْذار، وهو اسِّتر، والمعنى : ولو أرخى ستوره، والمعاذير : الستور بلغة " اليمن "، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد :[الطويل] ٤٩٩٣ - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ
عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ


الصفحة التالية
Icon