قلنا : فيصدق على أيِّ نعمة كانت.
وإن قلنا : لأنه إنما كان للماهية التي يصدق عليها أنها نعمة، فعلى هذا يكفي في تحقيق مسمّى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة، وإن كانت غاية في القلة والحقارة، وكيف يمكن أن تكون من حاله الثواب يومئذ في النعم العظيمة، فكيف ينتظرون نعمة قليلة، وكيف يمكن أن يكون من حاله كذلك أن يبشر بأنه يتوقع الشيء الذي يطلق عليه اسم النعمة، ومثال هذا : أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حاله في العظمة والقوة بعد سنة بحيث يكون متوقعاً لحصول نعمة واحدة فكما أن ذلك فاسد، فكذا هاهنا سلمنا أن النظر المتعدي بـ " إلى " المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار، ولكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ؛ لأن لذة الانتظار مع تعين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن تحصل في الآخرة زيادة حتى يحصل الترغيب في الآخرة، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول.
قالا لقشيري : وهذا باطل ؛ لأن واحد " الآلاء " يكتب بالألف لا بالياء.
وقرب الحصول معلوم بالعقل فبطل التأويل.
وأما قولهم : المراد ثواب ربها، فهو خلاف الظاهر، هذا ما ذكره ابن الخطيب.
وروى القرطبي في " تفسيره " قال : خرج " مسلم " عن جرير بن عبد الله قال :" كنا عند رسول الله ﷺ فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال ﷺ :" إنَّكُمْ سَتَروْنَ ربَّكمْ عياناً كمَا تَرونَ القَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤيتِهِ، فإن اسْتَطَعْتُم ألاَّ تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا " ثُمَّ قَرَأ :﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ [ق : ٣٩] " متفق عليه.
وفي كتاب " النسائي " عن صهيب - رضي الله عنه - فإن " فيُكشَفُ " الحِجابُ فينَظُرونَ إليْهِ، فواللَّهِ ما أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحبَّ إليْهِمْ من النَّظرِ، ولا أقَرَّ لأعْيُنِهِمْ ".
وروى أبو إسحاق الثعلبيُّ عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ :" يتَجَلَّى ربُّنَا - سُبْحانَهُ وتَعَالَى - حتَّى يُنْظَرَ إلى وَجْههِ فيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً، فيقُولُ اللَّه تعالى : ارفَعُوا رُءُوسكمْ فَليْسَ هذا بِيومِ عِبَادةِ "
٥٦٧
وقال القرطبي : وقيل : أضاف النظر إلى العين ؛ لأن العين في الوجه فهو كقوله تعالى :﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [البقرة : ٢٥] والماء يجري في النهر لا النهر ثم قد يكون الوجه بمعنى العين، قال تعالى :﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف : ٩٣]، أي على عينيه، ثم لا يبعد قلب العادة غداً حتى يخلق النظر في الوجه وهو كقوله تعالى ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الملك : ٢٢].
" فقيل : يا رسُول اللَّهِ، كيف يَمشُونَ في النَّار علَى وُجوهِهم ؟ قال :" الَّذي أمْشاهُمْ عَلى أقدامهِم قَادِرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوُهِهِم " قوله :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾، أي : وجوه الكفار يوم القيامة شديد كالحة.
والبَاسِر : الشديد العبوس، والباسل : أشد منه ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحة.
وفي " الصِّحاح " : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها، وبسر الرجل وجهه بسوراً أي : كلح، يقال :" عَبسَ وبَسَرَ ".
وقال السديُّ :" بَاسِرةٌ " مغيّرة، والمعنى : أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها.
قوله تعالى :﴿تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾.
أي : توقن وتعلم.
قال ابن الخطيب : هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن هنا إنما ذكر على سبيل التهكم، كأنه قيل لما شاهدوا تلك الأحوال حصل فيهم ظن أن القيامة حق.
الفاقرة هي الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة.
سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر.
قال النابغة :[الطويل] ٥٠٠٣ - أبَى لِيَ قَبْرٌ لا يَزالُ مُقَابلِي
وضَرْبَةُ فَاسٍ فَوقَ رَأسِي فَاقِرَهْ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦١
أي : داهية مؤثِّرة، يقال : فقرته الفاقرة، أي : كسرت فقار ظهره.
قال معناه مجاهد وغيره، ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القلّ وقد تقدم في البقرة.
٥٦٨
وقال قتادة :" الفاقرة " : الشر، وقال السديُّ : الهلاك.
وقال ابن عباس وزيد : دخول النار، وأصلها الوسم على أنفس البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم.
قاله الأصمعي.
يقالك فقرت أنفس البعير : إذا حززته بحديدة، ثم جعلت على موضع الحزّ الجرير وعليه وتر مَلْويّ لتذلله وتروضه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦١