قوله تعالى :﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ " كَلاَّ " ردْعَ وزَجْر، أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة، ثم استأنف فقال :﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ أي : بلغت النفس والروح التراقي فأخبر بما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب به كقوله تعالى :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص : ٣٢] وقوله :﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة : ٨٣].
وقيل :" كَلاّ " معناه " حقّاً " إن المساق إلى الله تعالى إذا بلغت التراقي، أي إذا ارتفعت النفس إلى التراقي.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي.
و " التراقي " : مفعول " بلغت " والفاعل مضمر، أي : النفس وإن لم يجرِ لها ذكر، كقول حاتم :[الطويل] ٥٠٠٤ - أمَاوِيَّ ما يُغنِي الثَّراءُ عن الفَتَى
إذَا حَشْرجتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي : حشرجت النفس.
وقيل : في البيت : إن الدال على النفس ذكر جملة ما اشتمل عليها وهو الفتى فكذلك هنا ذكر الإنسان دال على النفس، والعامل في " إذَا بَلغت " معنى قوله تعالى :﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ [القيامة : ٣٠]، أي : إذ بلغت الحلقوم رفعت إلى الله تعالى، ويكون قوله :﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة : ٢٧] معطوف على " بلغت ".
و " التراقي " : جمع " ترقوة "، أصلها :" تراقو " قلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها.
٥٦٩
والترقوة : أحد عظام الصدر.
قاله أبو حيان، والمعروف غير ذلك.
قال الزمخشري : ولكل إنسان ترقوتان، فعلى هذا يكون من باب : غليظ الحواجب وعريض المناكب.
وقال القرطبي :" هي العظام المكتنفة لنُقْرة النحر، وهو مقدم الدّلق من أعلى الصدر، وهو موضع الحَشْرجة ".
قال دريدُ بن الصمَّةِ :[الوافر] ٥٠٠٥ - ورُبَّ عَظِيمةٍ دَافعْتُ عَنْهَا
وقَدْ بَلغَتْ نُفوسُهُمُ التَّراقِي
وقال الراغب :" التَّرْقُوة " : عظم وصل ما بين نُقرة النحر والعاتق انتهى.
وقال الزمخشري : العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال.
ووزنها :" فَعْلُوة " فالتاء أصل والواو زائدة، يدل عليه إدخال أهل اللغة إياها في مادة " ترق ".
وقال أبو البقاء والفراء : جمع تَرْقُوَةَ، وهي " فَعْلُوة "، وليست بـ " تَفْعلَة "، إذ ليس في الكلام " رقو ".
وقرىء :" التراقي " بسكون، وهي كقراءة زيد :﴿تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة : ٨٩] وقد تقدم توجيهها.
وقد يكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
فصل في الرد على من طعن في الآية قال ابن الخطيب : قال بعض الطَّاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها للقلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق وحتى تلتف الساق بالساق، والجواب : أن المراد من قوله :﴿حتَّى إذَا بَلَغَت التَّرَاقِي﴾، أي : إذا حصل بالقرب من تلك الحالة.
قوله :﴿مَن رَاقٍ﴾ مبتدأ وخبر، وهذه الجملةهي القائمة مقام الفاعل، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون ؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.
٥٧٠
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً.
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، قالوا : هو من الرقية.
وروى سماك عن عكرمة قال :" من راق " يرقي ويشفي.
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً : هل من طبيب يشفيه، وهو قول أبي قلابة وقتادة.
وقال الشاعر :[البسيط] ٥٠٠٦ - هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ ؟
أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ ؟
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦٩