وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس، أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء : أنه من رقي يرقى : إذا صعد.
والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل : إن ملك الموت يقول :" مَن راقٍ " أي : من يرقى بهذه النفس.
قال شهاب الدين : و " راقٍ " اسم فاعل إما من " رقى يرقي " من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، قال رسول الله ﷺ :" ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة " يعني الفاتحة، وهو اسم من أسمائها، وإما من " رَقِيَ يرقَى " من الرَّقْي وهو الصعود أيأنالمائكة لكراهتها في روحه تقول : من يصعد بهذه الروح يقال :" رَقَى - بالفتح - من الرُّقية، وبالكسر من الرَّقْي "، ووقف حفص على نون " من " سكتة لطيفة، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو " من راشد ".
قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون " من " في قوله :" من راق ".
وروى حفص عن عاصم : إظهار النون واللام في قوله :" من راق " و " بل ران ".
قال أبو علي الفارسي :" ولا أعرف وجه ذلك ".
قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصدوا الوقف على " من " و " بل "، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدها، وهذا غير مرضي من القراءة.
قوله :﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾، أي : أيقن الإنسان أنه الفراق، أي : فراق الدنيا، والأهل
٥٧١
والمال والولد، وذلك حين يعاين الملائكة، وسمي اليقين هنا بالظن ؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحاية لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً.
قال ابن الخطيب : وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باقٍ بعد موت البدنِ ؛ لأن الله - تعالى - سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
قوله تعالى :﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾.
الالتفات هو الاجتماع، قال تعالى :﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء : ١٠٤] ومعنى الكلام : اتصلت الشدة بالشدة، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة.
قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
وقال الشعبي وغيره : التفت ساقاً الإنسان عند الموت من شدة الكربِ.
قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى.
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضاً : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفنِ.
وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت.
قال النحاس : القول الأول أحسنها، لقول ابن عباس : هو آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا رحم الله، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحنِ العظام، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساقٍ.
قال أهل المعاني : إن الإنسان إذا دهمته شدة شمَّر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد : ساق، قال الجعديُّ :[الطويل]
٥٧٢
٥٠٠٧ - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا
وإنْ ضَمَّرتْ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٥٦٩
قوله تعالى :﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾.
أي : إلى خالقك يومئذ، أي : يوم الساق، أي : يوم المرجع، و " المساق " " مفعل " من السوق وهو اسم مصدر.
قال القرطبي :" المساق " : مصدر ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
قوله :﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ﴾ " لا " هنا دخلت على الماضي، وهو مستفيض في كلامهم بمعنى : لم يصدق ولم يصل.
قال :[الرجز] ٥٠٠٨ - إنْ تَغْفِر اللَّهُمَّ تَغفِرْ جَمَّا
وأيُّ عَبْدٍ لَكَ لا ألمَّا
وقال آخر :[الطويل] ٥٠٠٩ - وأيُّ خَمِيسٍ، لا أتَانَا نِهَابُهُ
وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا
وقال مكيٌّ :" لا " الثانية نفي، وليست بعاطفة، ومعناه : لم يصدق ولم يصل.
قال شهاب الدين :" وكيف يتوهم العطف حتى ينفيه ".
وجعل الزمخشري ﴿فلا صدق وصلى﴾ عطفاً على الجملة من قوله :﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ قال : وهو معطوف على قوله :" يسأل أيان " أي لا يؤمن بالبعث فلا صدق بالرسول ﷺ والقرآن الكريم.
واستبعده أبو حيان.
وقال الكسائي :" لا " بمعنى " لم " ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله :﴿فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ [البلد : ١١] ليس من هذا القبيل ؛ لأن معناه : فهلا اقتحم، بحذف حرف الاستفهام.
٥٧٣
وقال الأخفش :" فلا صدّق " أي : لم يصدق، كقوله تعالى :" فَلا اقْتَحَمَ " أي : لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول : لا ذهب، أي : لم يذهب، فحرف النفي الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير :[الطويل] ٥٠١٠ -...................
فَلاَ هُوَ أبْداهَا ولمْ يتقدَّمِ