فصل في الكلام على الآية قال ابن الخطيب بعد حكايته أن " شاكراً وكفوراً " حالان : إنّ المعنى : كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
وقيل : وانتصب " شاكراً وكفوراً " بإضمار " كان " والتقدير : سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
وقيل : معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي يتمرز شكره من كفره، وطاعته من معصيته كقوله تعالى :﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك : ٢] قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك :" قد نصحت لك إن شئت فاقبل، وإن شئت قاترك " فتحذف الفاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد، أي : إنا هديناه السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف : ٢٩].
وقيل : حالان من السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر.
وقيل : حالان من السبيل، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
قال ابن الخطيب : وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة.
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون " إما " في هذه الآية كما في قوله تعالى :﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة : ١٠٦] والتقدير : إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى ﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً﴾ [الإنسان : ٤] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل الأول، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين، سواء آمن أو كفر، وبهذا بطل قول المجبرة.
وأجيب : بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان، وهذا تكليف بالجع بين متنافيين، فإ'ن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق، وبطل تأويل المعتزلة.
١٢
فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور قال القرطبي :" جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر، وإثباتاً لها في الكفر ؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه، حكاه الماوردي ".
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣
قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ﴾.
قرأ نافع والكسائي، وهاشم وأبو بكر، " سَلاسِلاً " والباقون : بغير تنوين.
ووقف هؤلاء، وحمزة، وقنبل عليه بالألف بلا خلاف.
وابن ذكوان والبزي وحفص : بالألف وبدونها - يعني بلا ألف - والباقون : وقفوا بالألف بلا خلاف.
فقد تحصّل من هذا القراء على أربع مراتب، منهم من ينون وصلاً ويقف بلا خلاف وهما حمزة وقنبل، ومنهم من لم ينون ويقف بالألف بلا خلاف، وهو أبو عمر وحده، ومنهم من ينون ويقف بالألف تارة وبدونها أخرى، وهم ابن ذكوان وحفص والبزي، فهذا ضبط ذلك.
١٣
فأما التنوين في " سَلاسِل " فذكروا له أوجهاً : منها : أنه قصد بذلك التناسب ؛ لأن ما قبله وما بعده منون منصوب.
ومنها : أن الكسائي وهغيره من أهل " الكوفة " حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا " أفعل منك ".
قال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف ؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها، وأن هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً قالوا :" صواحب وصواحبات "، وفي الحديث :" إنَّكُنَّ لصَواحِباتُ يُوسُف " ؛ وقال :[الرجز]
٥٠٢٨ - قَدْ جَرتِ الطَّيْرَ أيَامِنينَا
فجمع " أيامن " جمع تصحيح المذكر.
وأنشدوا :[الكامل] ٥٠٢٩ - وإذَا الرِّجالُ رَأوا يَزيدَ رَأيْتهُمْ
خُضعَ الرِّقابِ نَواكِس الأبْصَارِ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٣
بكسر السين من " نواكس " وبعدها ياء تظهر خطًّا لا لفظاً لالتقاء الساكنين، وهذا على رواية كسر السين، والأشهر فيها نصب السين، فلما جمع شابه المفردات فانصرف.
ومنها : أنه مرسوم في إمام " الحِجَاز " و " الكوفة " بالألف، رواه أبو عبيد، ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف " البصرة " أيضاً.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق، ويجري الوصل مجرى الوقف.
والثاني : أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف ما لا ينصرف.
قال شهاب الدين :" وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة، لا سيما على مشيخة
١٤


الصفحة التالية
Icon