قوله تعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ﴾.
قال مقاتل والكلبي : المراد بالمتقين : الذين يتقون الشرك بالله تعالى ؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم.
قال ابن الخطيب : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرضِ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما من جعله بسبب الطاعة فلا يليق بالنظم، وأيضاً فإن المتقي للشرك يصدق عليه أنه متَّقٍ ؛ لأن غاية هذا أنه عام مخصوص، فتبقى حُجَّة فيما عدا محل التخصيص، وأيضاً فأن يحمل اللفظ على المعنى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى تقوى الشرك، فالحمل عليه أولى.
٨٥
وقال بعضهم : هذه الآية أيضاً من جملة التهديد، فإن الكفار في الدنيا يكون الموت عليهم أسهل من أن يكون للمؤمنين دولة، فإذا رأوا عاقبة الفريقين في الآخرة تضاعف خسرانهم وندمهم، ولما أوعد الكفار بظل ذي ثلاث شعب، وعد المؤمنين بظلال وعيون وفواكه.
قوله :﴿فِي ظِلاَلٍ﴾.
هذه قراءة العامة.
والأعمش والزهري وطلحة والأعرج :" ظُلَل " جمع ظلة، يعني في الجنة.
وتقدم في " يونس " مثل لها.
قوله :﴿كُلُواْ﴾.
معمولاً لقول ذلك المنصوب على الحال من الضمير المستكن في الظرف، أي كائنين في ظلال مقولاً لهم : وكذلك كلوا وتمتعوا قليلاً، فإن كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضح، وإن كان مقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالهم، أي حقاً بأن يقال لهم في دنياهم كذا ؛ ومثله قوله :[المديد] ٥٠٦٦ - إخوتِي لا تَبْعَدُوا أبَداً
وبَلَى، واللهِ قَدْ بَعِدوا
أي هم أهل إن دعا لهم بذلك.
قوله ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد ﷺ وأعمالهم في الدنيا.
فصل في الكلام على الآية اختلفوا في قوله ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ هل هو أمر أو إذن ؟.
فقال أبو هاشم : هو أمر، وأراد الله تعالى منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك إذا علموا أن الله تعالى أراده منهم جزاء على عملهم، فكما يريد إجلالهم وإعظامهم بذلك، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب منهم.
وقال أبو علي : ليس بأمر وإنما يقوله على وجه الإكرام، والأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف لا في الاخرة.
فصل فيمن قال : العمل يوجب الثواب تمسّك من قال : العمل يوجب الثواب بالباء في قوله :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ؛ لأن الباء للإلصاق، ولمَّا جعل هذا العمل
٨٦
علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك كالآلة والصلة إلى تحصيل ذلك الثواب، وقوله تعالى :﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ المقصود منه تذكير الكفار بما فاتهم من النعيم العظيم ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات، فلما لم يفعلوا وقعوا فيما وقعوا فيه.
قوله تعالى :﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ﴾ هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين وهو وعيد وتهديد، وهو حال من المكذبين، أي : الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم :﴿كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ﴾ أي كافرون.
وقيل : مكتسبون فعلاً يضركم في الآخرة من الشرك، فكأنه - تعالى - يقول للكافر : إنك في الدنيا عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها لمحبتك الدنيا، ورغبتك في طيباتها، إلا أن طيباتها قليلةٌ بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة، فالمشتغل بتعظيمها يجري مجرى لُقْمةٍ واحدة من الحلوى، وفيها السم المهلك، فإنه يقال لآكلها تذكيراً له ونصحاً : كُلْ هذا، وويلٌ لك منه بعدُ ؛ فإنك من الهالكين بسببه، فهذا وإن كان في اللفظ أمر إلا أنه في المعنى نهيٌ بليغ وزجر عظيم.
قوله تعالى :﴿وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ﴾ نزلت في ثقيف، حين امتنعوا من الصلاة فنزلت فيهم.
قال مقاتل :" قال لهم النبي ﷺ : أسْلِمُوا وأمرهم بالصلاة، فقالوا : لا نَنْحَنِي، فإنها مَسبَّة علينا فقال رسول الله ﷺ :" لا خَيْرَ فِي دِينٍ ليس فيهِ رُكوعٌ ولا سجُودٌ ".
وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.
وقال قتادة : هذا في الدنيا.
فصل في وجوب الركوع قال ابن العربي : هذه الآية تدلّ على وجوب الركوع، وكونه ركناً في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه.
٨٧
وقال قوم : إن هذا يكون في الآخرة، وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفاً لحال الناس في الدنيا، فمن كان يسجد لله تمكن من السجود، ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقاً واحداً.
وقيل : إذا قيل لهم : اخضعوا للحق لا يخضعون، فهي عامّة في الصلاة وغيرها، وإنما ذكره الصلاة لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد، والأمر بالصلاة أمر الإيمان لا يصح من غير إيمان.
فصل في المراد بالآية حكى ابن الخطيب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بقوله :" وإذا قيلَ لهم اركعُوا لا يَرْكعُونَ " هو الصلوات، قال : وهذا ظاهر، لأن الركوع من أركانها فبين أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقُّون الذم والعقاب بترك الصلاة، لأن الله - تعالى - ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة.
فصل في أن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية على أن الأمر للوجوب، لأن الله - تعالى - ذمهم بمحمود ترك المأمور به، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب.
فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم.
فالجواب : أنه - تعالى - ذمهم على كفرهم من وجوه، إلا أنه - تعالى - إنما ذمهم في هذه الآية لترك المأمور به ؛ فدل على أن ترك المأمور به غير جائز.
قوله :﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ﴾.
متعلق بقوله :﴿يُؤْمِنُونَ﴾.
والعامة : على الغيبة، وقرأ ابن عامر في رواية ويعقوب : بالخطاب على الالتفات، أو على الانفصال.
فصل في الكلام على الآية قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها في الوجوه العشرة المذكورة، وحثَّ على التمسُّك بالنظر والاستدلال، والانقياد للدين الحق، ختم السورة بالتعجُّب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه
٨٨
الدلائل العقلية بعد تجليتها ووضوحها، ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾.
قال القاضي : هذه الآية تدلّ على أن القرآن محدث ؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه حديث، والحديث ضد القديم، والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب ألاَّ يكون قديماً.
وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ، ولا نزاع في أنها محدثة.
" روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورةَ " المُرْسَلاتِ " كُتِبَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُشْرِكينَ ".
٨٩
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٨٥


الصفحة التالية
Icon