والحالة الرابعة : أن تنسف ؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة تارة في مواضعها في الأرض، فترسل الرياح، فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيِّرها في الهواء كأنها مارة، فمن نظر إليها يحسبها لتكاثفها أجساماً جامدة، وهي في الحقيقة مارة، إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة منتسفة.
والحالة الخامسة : أن تصير سراباً، أي : لأي شيء كما رؤي السراب من بعد.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٠٠
قوله تعالى :﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ " مَفْعَالاً " من الرصد، والرصد : كل شيء كان أمامك.
قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري :" أنَّ جَهنَّمَ " بفتح " أن ".
قال الزمخشريُّ : على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين، كأنَّه قيل : كان ذلك ٌقامة الجزاء، يعني : أنه علَّة لقوله تعالى :﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ إلى آخره.
قال القفال : في المرصاد قولان : أحدهما : أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمِنْهَاج : اسم للمكان الذي ينهج فيه، أي : جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل، وعلى هذا فيه احتمالان : الأول : أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار.
والثاني : أن مجاز المؤمنين، وممرهم على جهنم، لقوله تعالى :﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم : ٧١]، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني : أنَّ " المِرصَاد " " مِفْعَال " من الرصد، وهو " الترقب " بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه، و " المِفْعَالُ " من أبنية المبالغة كـ " المِعطَاء، والمِعْمَار، والمِطْعَان ".
قيل : إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ، وتشتد عليهم لقوله تعالى : تكاد تميَّزُ من الغيظ.
١٠٣
وقيل : ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ.
فصل دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق.
قوله :﴿لِّلطَّاغِينَ﴾ يجوز أن يكون صفة لـ " مِرْصَاداً "، وأن يكون حالاً من " مآباً " كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس " مِرْصَاداً "، أو بنفس " مآباً " ؛ لنه بمعنى مرجع.
قال ابن الخطيب : إن قيل بأن :" مِرصَاداً " للكافرين فقط، كان قوله :" للطَّاغين " من تمام ما قبله، والتقدير : كانت مرصاداً للطَّاغين، ثم قوله :" مآباً " بدل قوله :" مرصاداً "، وإن قيل : إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى :﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ كلاماً تاماً وقوله تعالى :﴿لِّلطَّاغِينَ مَآباً﴾ كلاماً مبتدأ، كأنه قيل : إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل، و " مآباً " للطَّاغين خاصَّة، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله :" مرصاداً " ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.
قال القرطبيُّ :" للطَّاغِينَ مآباً " بدلٌ من قوله :" مِرصَاداً "، والمَآبُ " المرجع، أي : مرجعاً يرجعون إيله، يقال : آب يثوب أوْبَة : إذا رجع.
وقال قتادة : مأوى ومنزلاً، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.
قوله :﴿لاَّبِثِينَ﴾.
منصوب على الحال من الضمير المستتر في " للطاغين "، وفي حال مقدرة.
وقرأ حمزة :" لبثين " دون ألف.
والباقون :" لابثين " بألف.
وضعف مكي قراءة حمزة، قال : ومن قرأ :" لبثين " شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق، وهو بعيد ؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان.
وليس اللبس بخلقة.
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة، فقال :" قرأ : لابثين " ولبثين " واللبث أقوى ؛ لأن
١٠٤
اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه ".
وما قاله الزمخشري أصوب.
وأمَّا قولُ مكيٍّ : اللبث ليس بخلقة، فمسلم لكنه بولغ في ذلك، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة.
و " لابثين " اسم فاعل من " لبث "، ويقويه أنَّ المصدر منه " اللّبث " - بالإسكان - كـ " الشرب ".
قوله :" أحْقَاباً " منصوب على الظرف، وناصبه " لاَبِثيْنَ "، هذا هو المشهور، وقيل : منصوب بقوله :" لا يذوقون "، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد " لا " عليها وهو أحد الأوجه، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال.
قال :" وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقبٌ وجمعه :" أحْقَاب "، فينتصب حالاً عنهم، بمعنى : لابثين فيها بحقبين جحدين ".
وتقدم الكلام على الحقب في سورة " الكهف ".
قال القرطبي : و " الحِقْبَةُ " - بالكسر - : السَّنة، والجمع حِقَب ؛ قال متممُ بنُ نويرةَ :[الطويل] ٥٠٧٥ - زكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً
مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ : لَنْ يتصدَّعا
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٠٣