وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون :" كُذاباً " بضم الكاف وتشديد الذال، وفيها وجهان : أحدهما : أنه جمع كاذبِ، نحو : ضراب " في " ضارب " وعلى هذا، فانتصابه على الحال المؤكدة، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين.
قاله أبو البقاء.
والثاني : أنَّ " الكُذَّاب " بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال : رجل كذاب، كقولك : حسان، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا : أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه.
قاله الزمخشري.
قال القرطبي : وفي " الصِّحاح " : وقوله تعالى :﴿وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾ وهو أحد مصادر المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على " تَفْعِلَة " مثل " تَوصِيَة "، وعلى " مُفَعَّل " مثل :﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ : ١٩].
قوله تعالى :﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ العامة على النصب على الاشتغال، وهو الراجح، لتقدم جملة فعلية.
وقرأ أبو السمال : برفع " كُل " على الابتداء، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب، لأنَّ الصل :" وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا " فـ " ذوقوا " مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم.
قوله :" أحْصَيْنَاهُ ".
فيه أوجه : أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا، أي : إحصاءً، فالتجوُّز في نفس المصدر.
الثاني : أنه مصدر لـ " أحْصَيْنَا " لأنَّه في معنى :" كَتَبْنَا " فالتجوُّز في نفس الفعل.
قال الزمخشري :" لانتفاءِ الإحْصاءِ "، والكتبة في معنى الضبط، والتحصيل.
قال ابن الخطيب : وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال ﷺ :" قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ " فكأنَّهُ تعالى قال :﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً﴾ إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد، كالمكتوب، والمراد من قوله :" كِتَاباً " تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال ؛ لأنَّه واجبٌ لذاته.
١١٠
الثالث : أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى :﴿وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [يس : ١٢].
وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى :﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار : ١٠، ١١].
فصل في المراد بالإحصاء معنى ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي : علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى :﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة : ٦].
قال ابن الخطيب : وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى :" جَزَاءً وفاقاً "، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها ؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافراً قطعاً.
قوله تعالى :﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ قال ابن الخطيب : هذه " الفاء " للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه " الفاء " أفادت عين فائدة قوله :" جزاء وفاقاً ".
فإن قيل : أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار :﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة : ١٧٤].
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم :" فذوقوا "، فقد كلَّمهُمْ ؟.
فالجواب : قال أكثر المفسرين : ويقال لهم :" فَذُوقُوا ".
ولقائلٍ أن يقول : قوله :﴿فَلَن نَّزِيدَكُمْ﴾ لا يليق إلا بالله، والقرب في الجواب أن يقال : قوله :﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران : ٧٧] معناه : ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله :﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ﴾ [آل عمران : ٧٧] إنما ذكره لبيانه أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب.
فإن قيل : إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب : أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً : فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.
١١١