تقدم اختلاف العلماء في القسم بهذه الأشياء، هل هو قسم بها أو بخالقها ؟ وأن المتقدمين ذهبوا إلى أن القسم واقع برب الشفق، وإن كان محذوفاً ؛ لأن ذلك معلوم من ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى.
واعلم أن الصحيح في الشفق : أنَّه الحمرة ؛ لأن أكثر الصحابة، والتابعين، والفقهاء عليه، وشواهد [كلام العرب]، والاشتقاق، والسنة تشهد له.
وقال الفراء :" وسمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ أحمر كأنه الشفق ".
وقال الشاعر :[الرجز]
٥١٤٢ - وأحْمَرُ اللَّوْنِ كحُمَرِّ الشَّفقْ
وقال آخر :[البسيط] ٥١٤٣ - قُمْ يا غُلامُ أعنِّي غَيْرَ مُرتَبِكٍ
على الزَّمانِ بكأسٍ حَشوُهَا شَفَقُ
ويقال للمغرة : الشَّفقة.
وفي " الصِّحاح " : الشَّفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قرب من العتمة.
وقال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب قيل : غاب الشفق.
٢٣٥
وأصل الكلمة من رقَّة الشيء، يقال : شيء شفق، أي : لا تماسك له لرقته، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه، والشفقة : الاسم من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس.
وزعم بعض الحكماء : أن البياض لا يغيب أصلاً.
وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية، فرمقت البياض، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق، ولم أره يغيب.
وقال ابن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر، وكل ما يتجدّد وقته سقط اعتباره.
وروى النعمانُ بن بشيرٍ، قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان النبي ﷺ يصليها لسقوط القمر لثالثة.
وهذا تحديد.
وقال مجاهد : الشفق النهار كله ؛ لأنه عطف عليه ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾، فوجب أن يكون الأول هو النهار، فعلى هذا يكون القسم واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والثاني : سكن، والشفقُ أيضاً : الرديء من الأشياء، يقال : عطاء مشفق، أي : مقلل ؛ قال الكميتُ :[الكامل] ٥١٤٤ - مَلِكٌ أغَرُّ مِن المُلُوكِ تَحلَّبَتْ
للسَّائلينَ يَداهُ غَيْرُ مُشفَّقِ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٤
قوله :﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾، أي : جمع وضم ولف، ومنه : الوسْقُ، وهو الطعام المجتمع الذي يكال أو يوزن، وهو ستُّون صاعاً، ثم صار اسماً، واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، والراعي وسقها، أي : جمعها ؛ قال الشاعر :[الرجز] ٥١٤٥ - إنَّ لَنَا قَلائصاً حقَائِقَا
مُستوسِقَاتٍ لوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
والوِسْقُ - بالكسر - : الاسم : وبالفتح : المصدر، وطعام موسق : أي : مجموع،
٢٣٦
ويقال : وسقهُ فاتَّسقَ، واسْتَوسَقَ، ونظير وقوع " افتعل، واستفعل " مطاوعين : اتسع واستوسع، ومنه قولهم : وقيل : وسق، أي : عمل فيه ؛ قال :[الطويل] ٥١٤٦ - ويَوْماً تَرَانَا صَالحينَ وتَارَةً
تَقُومُ بِنَا كالواسِقِ المُتلبِّبِ
فصل في معنى الآية قال عكرمة - رضي الله عنه - :" ومَا وسقَ "، أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي فالوسقُ، بمعنى الطرد، ومنه قيل للطَّريد من الإبل والغنم : وسيقه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - :" وما وسق " أي : وما جنَّ وستر.
وعنه أيضاً : وما حمل، ووسَقَتِ الناقة تَسِقُ وسْقاً : أي : حملت وأغلقت رحمها على الماء فهي ناقة واسق، ونزق وساق، مثل : نائم ونيام، وصاحب وصحاب، ومواسيق أيضاً، وأوسقتُ البعير : حملته حمله، وأوسقت النخلة : كثر حملها.
وقال يمانٌ والضحاك ومقاتلُ بن سليمان : حمل من الظلمة.
وقال مقاتلٌ : حمل من الكواكب.
وقال ابنُ جبيرٍ :" وما وسق " أي : وما حمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار.
قوله :﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾.
أي : امتلأ.
قال الفراء : وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر.
وهو " افتعل " من " الوسق " وهو الضم والجمع كما تقدم، وأمر فلان متسقٌّ : أي : مجتمع على الصلاح منتظم، ويقال : اتسق الشيء إذا تتابع.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - " إذا اتَّسَقَ " أي : استوى واجتمع وتكامل وتمَّ واستدار.
قوله :﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾ هذا جواب القسم.
وقرأ الأخوان، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومسروق، وأبو وائل، ومجاهدٌ والنخعيُّ، والشعبيُّ، وابن جبيرٍ : بفتح الباء على الخطاب للواحد.
٢٣٧