لأن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء، يكون الثاني بعد الأول فصلحت " بعد " و " عن " للمجاوزة، والصحيح أنها على بابها، وهي صفة، أي : طبقاً حاصلاً عن طبق، أي : حالاً عن حالٍ.
وقيل : جيلاً عن جيل.
انتهى.
يعني الخلاف المتقدم في الطبق ما المراد به، هل هو الحال، أو الجيل، أو الأمة كما تقدم نقله ؟ وحينئذ فلا نعرب طبقاً مفعولاً به، بل حالاً، كما تقدم، لكنه لم يذكر في طبق غير المفعول به، وفيه نظر، لما تقدم من استحالته، يعني إذ يصير التقدير : لتركبن طبقة أمَّةٍ، فتكون الأمة مركوبة لهم، وغن كان يصح على تأويل بعيدٍ جداً وهو حذف مضاف، أي : لتركبن سنن، أو طريقة طبق بعد طبق.

فصل في حدوث العالم هذا أدلُّ على " حدوث العالم " وإثبات الصانع.


٢٤٠
قالت : الحكماء : من كان ايوم على حاله، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.
وقيل لأبي بكر الورق : ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانهاً ؟ فقال : تحويل الحالات، وعجز القوةّ، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة.
قوله :﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
يعني : أي شيء بمنعهم من الإيمان بعد ما وضَّحت لهم الآيات والدَّلالات، وهذا استفهام إنكارٍ.
وقيل : تعجب أي : اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وقوله تعالى :﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ حال.
قال ابنُ الخطيب : فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة، وهو استفهام إنكارٍ، وإنَّما يحسن عند ظهور الحُجَّة، وذلك أنه - تعالى - أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله :﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمةٍ بعد نورٍ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النَّومِ، وكذا قوله تعالى :﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ فإنه يدل على تغيير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح، لا بد وان يكون قادراً، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد :﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾.
فصل في الكلام على الآية قال القاضي :" لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزاً عن الإيمان :﴿فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾، وهذا يدل على كونهم قادرين، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهمن فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة ".
وجوابه تقدم.
قوله :﴿وَإِذَا قُرِىءَ﴾ شرط، جوابه ﴿لاَ يَسْجُدُونَ﴾، وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال نسفاً على ما قبلها، أي : فما لهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، أي : لا يصلون قاله ابن عباس : وعطاء، والكلبي، ومقاتل [وقال أبو مسلم : المراد الخضوع والاستكانة.
وقيل : المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة - رضي الله عن - أن رسول الله ﷺ سجد فيها.
٢٤١
وقال مالك : إنها ليست من عزائم السجود ؛ لأن المعنى لا يدعون ولا يطيعون].
قوله تعالى :﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ﴾.
العامّة : على ضمِّ الياء من " يكذبون " وفتح الكاف وتشديد الذَّال.
والضحاكُ وابنُ أبي عبلة : بالفتح والإسكان والتخفيف [وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة].
والمعنى : يُكذِّبُون بمحمد ﷺ وما جاء به.
قال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير، وكانوا أربعة، فأسلم اثنان منهم.
وقيل : هو في جميع الكفار.
قوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾.
هذه هي قراءة العامة، من أوعى يُوعِي، أي : بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب، رواه الضحاك عن ابن عباسٍ.
وقال مجاهدٌ : يكتمون من أفعالهم.
وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه، يقال : وعيت الزَّاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء ؛ قال الشاعر :[البسيط] ٥١٥١ - ألخَيْرُ أبْقَى وإنْ طَال الزَّمانُ بِهِ
والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوعَيْتَ مِنْ زَادِ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٤
وقرأ أبو رجاءٍ :" يَعُونَ " من " وَعَى يَعِي "، يقال : وعاهُ إذا حفظهُ، يقال : وعيتُ الحديثَ، أعيهُ، وعياً، وأذنٌ واعيةٌ، وفيه تقدم.
قوله تعالى :﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، أي : مُؤلمٍ في جهنَّم على تكذيبهم وكفرهم، أي : جعل ذلك بمنزلة البشارة.
قوله :﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ : يجوز أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً، هذا إذا كانت الجملة من قوله :" لَهُمْ أجْرٌ " : مستأنفة أو حالية، أمَّا إذا كان الموصول مبتدأ والجملة خبره، فالاستثناء ليس من قبيل استثناء المفردات، ويكون من قسم المنقطعِ، أي : لكن الذين آمنوا لهم كيت وكيت.
٢٤٢
وتقدم معنى الممنُون في " " حم " السجدة، وأنَّ معناه : غير منقوص لا مقطوع، يقال : مننت الحبل : إذا قطعته.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس - رضي الله عنهما - عن قوله :﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ فقال : غير مقطوع، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم، قد عرفه أخو يشكر ؛ حيث يقول :[الخفيف] ٥١٥٢ - فَتَرَى خَلفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْـ
ـعِ مَنِيناً كأنَّهُ أهًبَاءُ
قال المبرد : المنين : الغبار ؛ لأنه يقطعه وراءها، وكل ضعيف مَنِين ومَمْنُون.
وقال بعضهم : ليس هنا استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال : والذين آمنوا.
وقد مضى القول فيه في سورة البقرة، والله تعالى أعلم.
" روى الثعلبي عن أبيَّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ أعاذهُ اللهُ - تَعَالَى - أن يُعْطيهُ كِتابهُ وَراءَ ظَهْرهِ " وحسبنا الله ونعم الوكيل.
٢٤٣
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣٤


الصفحة التالية
Icon