قوله :" الأعلى " : يجوز جره :" صفة " لـ " ربك "، ونصبه صفة لـ " اسم "، إلا أن هذا يمنع أن يكون " الذي " صفة " ربك "، بل يتعين جعله نعتاً لـ " اسم "، أو مقطوعاً لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره ؛ إذ يصير التركيب، مثل قولك : جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنة، فيفصل بـ " العال " بين " هند " وبين صفتها.
وتقدم الكلام في إضافة الاسم إلى المسمى.
قوله :﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾.
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يريد النَّاس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان،
١٧٤
ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه الله تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً : أحدها : اعتدال قامته، وحسن خلقته على ما قال تعالى :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين : ٤] وأنثى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون : ١٤].
وثانيها : أن كل حيوان مستعد لنوعٍ واحدٍ من الأعمال فقط، وأما الإنسان، فإنه خلقه بحيثُ يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات.
وثالثها : أنه - تعالى - هيأه للتكليف، والقام بأداء العبادات.
قال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء، وسوَّى في أرحام الأمهات، ومن حمله على جميع الحيوانات، فمعناه : أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ، وأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات، علم بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام وافتقان، مبرأ عن النقص والاضطراب.
قوله :﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رضي الله عنه - والسلميُّ :" قدر " بتخفيف الدال، والباقون : بالتشديد.
والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم.
ومن خفف، قال القفَّال : معناه : ملك فهدى، وتأويله : انه تعالى خلق كل شيء، فسوى، ومالك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك، فهداه لمنافعه ومصالحه.
ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ، وعليه قوله تعالى :﴿فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات : ٢٣] بالتشديد والتخفيف، وقد تقدم.
فصل في معنى الآية قال مجاهدٌ : قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها.
وقيل : قدَّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.
٢٧٥
وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى :" فَهدَى " : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى، كما قال تعالى في سورة " طه " :﴿أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه : ٥٠]، أي : الذكر للأنثى.
وقال عطاء : جعل لكل دابَّة ما يصلحها، وهداها له.
وقيل :" قدَّر فَهَدى " أي : قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه، فهداهُ إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى، أن كسح العينين بورق الرازيانج الغض، يرد إليها بصرها، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوى تلك المسافة على طولها، وعماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج، لا تخطئها، فتحك بها عينها، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
[وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور، وهوام الأرض باب ثابت واسع، فسبحان ربي الأعلى].
وقال السديُّ : قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه إلى الخروج من الرحم.
وقال الفراء :" قدَّى فهَدى " أي : وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله :﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل : ٨١]، ويحتمل أن يكون بمعنى " دَعَا " إلى الإيمان كقوله تعالى :﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى : ٥٢] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان].
وقيل :" فَهَدَى " أي : دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً.
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى، هي معتمد الأنبياء.
قال إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - :﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء : ٧٨].
وقال موسى - عليه الصلاة والسلام - لفرعون :﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه : ٥٠]، وقال هنا ذلك، وإنما خصت هذه الطريقة لوضوحها وكثرة عجائبها.
قوله :﴿وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾، أي : النبات، لما ذكر سبحانه ما يختص بالناس، أتبعه بما يختص بسائر الحيوان من النعم، اي : هو القادر على إنبات العشب، لا كلأصنام التي عبدتها المفرةُ، والمرعى : ما تخرجه الأرض من النبات، والثمار، والزروع، والحشيش.
٢٧٦
قال ابنُ عبَّاسٍ :" المرعى " : الكلأ الأخضر.
قوله :﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى ﴾.
" غثاء " : إما مفعول ثانٍ : وإما حال.
" والغُثَّاء " :- بتشديد الثاء وتخفيفها - وهو الصحيح، ما يغترفه السيل على جوانب الوادي من النبات ونحوه ؛ قال امرؤ القيس :[الطويل] ٥١٧٧ - كَأنَّ طَميَّاتِ المُجيمِرِ غُدوَةً