وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله ﷺ في كل ما ينزل عليه من الوحي، أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت، والتحفُّظ في جميع المواضع، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه ﷺ عى التيقُّظ في جميع الأحوال.
قوله :﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل، " وَمَا يَخْفَى " من السرّ.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك.
وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، " ومَا يَخْفَى " هو ما نسخ في صدرك.
فصل في الكلام على " ما " " ما " اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.
قوله :﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ : عطف على " سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى "، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض.
واليسرى : هي الطَّريفة اليسرى، وهي أعمال الخير، والتقدير : سنقرئك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن.
[قال ابن مسعود : اليسرى الجنة التي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة، قال الضحاك :] فإن قيل : المعهود في الكلام أن يقال : يسر الأمر لفلان، ولا يقال : يسر فلان للأمر.
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة " والليل "، فكذا هي اختيار الرسول ﷺ في قوله :" اعمَلُوا فكُلُّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ "، وفيه لطيفة : وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك، ولا عكسه، وإلاَّ لمرجح، وعند ذلك المرجح يجب الفعل، فالفاعل إذن ميسر للفعل، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل، فذلك الرجحان هو المسمى بـ " التيسير ".
٢٨١
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٨
قوله :﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾.
أي : فعظ قومك يا محمد بالقرآن ﴿﴾ أي : الموعظة، و " إن " شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم ؛ ومنه قوله :[الوافر] ٥١٨٠ - لَقدْ اسْمعْتَ لوْ نَاديْتَ حَيًّا
ولكِنْ لا حَياةَ لِمَنْ تُنَادِي
وقيل :" إن " بمعنى :" إذا " كقوله :﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران : ١٣٩] أي : إذا كنت مؤمنين.
وقيل : بعده شيء محذوف، تقديره : إن نفعت الذكرى، وإن لم تنفع، كقوله :﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل : ٨١]، قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي.
وقيل : إنه مخصوصٌ في قوم بأعيانهم.
وقيل :" إن " بمعنى :" ما " أي : فذكر ما نفعت الذِّكرى، فتكون " إن " بمعنى :" ما " لا بمعنى : الشرط ؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال.
قاله ابن شجرة.
فصل في فائدة هذا الشرط قال ابنُ الخطيب : إنه صلى الله كان مبعوثاً إلى الكل، فيجب عليه تذكيرهم سواء إن نفعت الذكرى، أو لم تنفعهم، فما فائدة هذا الشرط، وهو قوله :﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ والجواب من وجوه : إمَّا أن يكون المراد : التنبيه على أشرف الحالين، وهو وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى، قال : والمعلق بـ " إن " على الشيء لا يلزمُ أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه آيات منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى :﴿وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة : ١٧٢]، ومنها قوله تعالى :﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ [النساء : ١٠١]، فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه، ومنها قوله تعالى :﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [البقرة : ٢٣٠]، والمراجعة جائزة بدون هذا الظنِّ، وإن كان كذلك، فهذا الشرط فيه فوائد منها ما تقدم، ومنها : تعقل، وهو تنبيه للنبي ﷺ على أنهم لا تنفعهم الذكرى، أو يكون هذا في تكرير الدعوة، فأما الدعاء الأول فعام.
٢٨٢