فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر :﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة : ٣٥، ٣٦].
وقد قال تعالى - هاهنا - :﴿إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾ وهو غير الغسلين، فما وجه الجمع ؟.
والجواب : أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد.
قال الكلبيُّ : الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى.
قوله :﴿لاَّ يُسْمِنُ﴾.
قال الزمخشريُّ : مرفوع المحل، أو مجرور على وصف طعام، أو ضريع ".
قال أبو حيان :" أما وصفه بـ " ضريع " فيصح ؛ لأنه نبت نفي عنه السمن، والإغناء من الجوعن وأمَّا رفعه على وصفه الطعام، فلا يصح ؛ لأن الطعام منفي، والسمن منفي، فلا يصح تركيبه ؛ لأنه يصير التقدير : ليس لهم طعام ولا يسمن، ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى : أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه : أن له مالاً لا ينتفع به من غير مال عمرو ".
قال شهاب الدين : وهذا لا يرد ؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم، وقد منع منه مانع، كالسياق في الآية الكريمة.
ثم قال أبو حيَّان : ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في :" إلاَّ من ضريع "، كان صحيحاً ؛ لأنه في موضع رفع، على أنه بدل من اسم ليس، أي : ليس لهم طعام إلاَّ كائن من ضريع ؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمنٍ، ولا مغنٍ من جوع، وهذا تركيب صحيح، ومعنى واضح.
وقال الزمخشريُّ أيضاً :" أو أريد لا طعام لهم أصلاً ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس ؛ لأن الطعام ما أشبع، أو أسمن، وهو عنهما بمعزل، كما تقول : ليس لفلان إلا ظلّ إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد ".
قال أبو حيَّان : فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً ؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام، إذ ليس بطعام، والظاهر : الاتصال فيه، وفي قوله تعالى :﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة : ٣٦].
٢٩٥
قال شهابُ الدين : وعلى قول الزمخشري المقتدم لا يلزم أن يكون منقطعاً، إذ المراد نفي الشيء بدليله أي : إن كان لهم طعام، فليس إلا هذا الذي لا يعده أحد طعاماً، ومثله : ليس له ظل إلا الشمس وقد مضى تحقيق هذا عند قوله تعالى :﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ﴾ [الدخان : ٥٦] وقوله :[الطويل] ٥١٨٤ - ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
.....................................
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٩
ومثله كثير.
فصل في المراد بالآية المعنى : ان كعامهم ليس من جنس طعام الإنس ؛ لأنه نوع من أنواع الشوك، والشوك مما ترعاه الإبلُ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه، وهما : إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى : ليس لهم طعام أصلاً ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنسان، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية، قال المشركون : إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت :﴿لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ وكذا فإن الإبل ترعاه رطباً، فإذا يبس لم تأكله.
وقيل : اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النَّبتِ النافع ؛ لأن المضارعة المشابهة، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع، فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريعٍ لا يسمن من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٩
قوله :﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾.
أي : ذات نعمة، وهي وجوه المؤمنين، نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها.
وقيل : ذات بهجة وحسن، لقوله تعالى :﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين : ٢٤]، أي : متنعمة " لِسَعْيهَا "، أي : لعملها الذي عملته في الدنيا " راضيةٌ " في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها، وفيها واو مضمرة، والتقدير : ووجوه يومئذ، ليفصل بينها، وبين الوجوه المتقدمة، والوجوه عبارة عن الأنفس.
٢٩٦