يريد : أنكرني ؛ ولأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة لا تخالف خط المصحف ؛ لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال :" فأكرمه ونعمه " ؟ قلت : لأن البسط : إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير، فليس بإهانة له ؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية، قلت : أكرمني بالهدية، ولا تقول : أهانني، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
٣٢٦
وأجاب ابنُ الخطيب عن هذا السؤال : بأنه في قوله :" أكرمني " صادق، وفي قوله :" أهانني " غير صادق فهو ظهن أنَّ قلة الدنيا، وتعسرها إهانة، وهذا جهل، واعتقاد فاسد، فكيف يحكي الله - تعالى - ذلك عنه ؟.
قيل : لما قال :" فَأكْرَمهُ "، فقد صحَّ أنه أكرمه، ثم إنه حكى عنه أنه قال :" أكرمن " ذمه عليه، فكيف الجمع بينهما ؟.
فالجواب : أن كلمة الإنكار :" كلاَّ "، فلم لا يجوز أن يقال : إنَّها مختصة بقوله تعالى :" ربي أهانن " ؟.
سمنا الإنكار عائد إليهما معاً، لكن يمكن أن يكون الذَّم ؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق، أو أنه لم يعترف إلا عند سعة الدنيا، مع سبق النعم عليه من الصحة، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر، بل محبة الدنياـ والتكثير بالأموال والأولاد، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث، كما حكى الله تعالى بقوله :﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَداً﴾ [الكهف : ٣٥] إلى قوله :﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ [الكهف : ٣٧].
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٤
قوله تعالى :﴿كَلاَّ﴾ : ردعٌ للإنسان عن تلك المقالة.
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - المعنى : لم أبتله بالغنى، لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقرِ، لهوانه عليّ، بل ذلك لمحضِ القضاء والقدر، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل، وهذا مذهب أهل السنة، وأما على مذهب المعتزلة : فلمصالح خفيَّة، لا يطلع عليها إلا هو - سبحانه - فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع : يعني : لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله - تعالى - على الغنى والفقر.
قوله :﴿بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾.
قرأ أبو عمرو :" يكرمون "، وما بعده بياء الغيبة، حملاً على معنى الإنسان المتقدم، إذا المراد به الجنس، والجنس في معنى : الجمع.
والباقون : بالتاء في الجميع، خطاباً للإنسان المراد به الجنس، على طريقة الالتفات.
٣٢٧
فصل فيمن نزلت فيه الآية لما حكى قولهم، فكأنه قال : لهم فعل أشر من هذا القول، وهو أن - تعالى - يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم، فقرعهم بذلك، ووبخهم.
وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله.
وقال مقاتلٌ : نزلت في قدامة بن مظعونٍ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه.
قوله :﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
قرأ الكوفيون :" ولا تحاضون "، والأصل : تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي : لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي :" تُحاضُّون " بضم التاء، وهي قراءة زيد وعلقمة، أي : تحاضون أنفسكم.
والباقون :" تَحُضُّون " من حضَّه على كذا، أي : أغراه به، ومفعوله محذوف، أي : لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي : لا يوقعون الحضّ.
قوله :" عَلى طعامِ " : متعلق بـ " تحضون "، و " طَعَام " : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي : على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى : الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.
فصل في ترك إكرام اليتيم اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه : أحدها : ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
والثاني : دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾.
قوله :﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً﴾ التاء في " التُّراثَ " : بدل من الواو ؛ لأنه من الوراثة ومثله : تولج، وتوراة، وتخمة وقد تقدم كما قالوا : تجاه، وتخمة، وتكأة، وتؤدة، ونحو ذلك.
والتراث : ميراث اليتامى، وقوله تعالى :﴿أَكْلاً لَّمّاً﴾، اللَّمم : الجمع الشديد، يقال : لممت الشيء لماً، أي : جمعته جمعاً.
٣٢٨
قال الحطيئة :[الطويل] ٥٢٠٥ - إذَا كَانَ لمَّا يُتْبعُ الذَّمُّ ربَّهُ
فَلا قدَّسَ الرَّحمنُ تِلْكَ الطَّواحِنَا
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٧
ولمَمْتُ شعثه من ذلك ؛ قال النابغة :[الطويل] ٥٢٠٦ - ولسْتُ بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تَلمُّهُ
عَلى شَعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذب ؟


الصفحة التالية
Icon