سورة البلد
مكية، وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٧
قوله تعالى :﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ﴾ : يجوز أن تكون " لا " : زائدة، كما تقدم في :" لا أقسم بيوم القيامة "، قاله الأخفش : أي : أقسم ؛ لأنه قال :" بهذا البلد "، وقد أقسم به في قوله :﴿وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين : ٣]، فكيف يجوز القسمُ به، وقد أقسم به سبحانه ؛ قال الشاعر :[الطويل] ٥٢١٠ - تَذَكَّرتُ لَيْلَى فاعْتَرَتْنِي صَبابَةٌ
وكَادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتَقطَّعُ
أي : يتقطع، ودخل حرف " لا " : صلة، ومنه قوله تعالى :﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف : ١٢] وقد قال تعالى في سورة " ص " :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ [ص : ٧٥].
وقرأ الحسن والأعمش وابن كثير :" لأُقٍسِمُ " من غير ألفٍ بعد اللام إثباتاً.
وأجاز الأخفش أيضاً، أن تكون بمعنى :" ألا ".
وقيل : ليست بنفي القسم، ، وإنما هو كقول العرب : لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان كذا، لا والله لأفعلن كذا.
وقيل : هي نفي صحيح، والمعنى : لا أقسم بهذا البلد، إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه.
حكاه مكيٌّ، ورواه ابنُ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قال :" لا " : رد عليهم،
٣٣٨
وهذا اختيار ابن العربي، لأنه قال :" وأما من قال : إنها رد، فهو قول ليس له رد ؛ لأنه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد ".
فهو رد لكلام من أنكر البعث، ثم ابتدأ القسم.
وقال القشيريُّ : قوله :" لا " رد لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة، المغرور في الدنيا، أي : ليس الأمر كما تحسبه من أنه لم يقسم عله أحد، ثم ابتدأ القسم، وأجمعوا على أنَّ المراد بالبلد : مكَّة المشرفة، أي : أقسم بالبلد الحرام، الذي أنت فيه، لكرامتك عليَّ وحبي لك.
قوله :﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أن الجملة الاعتراضية على أحد معنيين، إما على معنى : أنه - تعالى - أقسم بهذا البلد، وما بعده، على أن الإنسان في كبد، واعترض بينهما بهذه الجملة، يعني : ومن المكابدة، أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد، كما يستحل الصيد في غير المحرم.
وإما على معنى : أنه أقسم ببلدة، على أنَّ الإنسان لا يخلُو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح " مكة "، تتميماً للتَّسلية، فقال تعالى : وأنت حلٍّ به فيما يستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل، والأسر، فـ " حِلٌّ " بمعنى : حلال، قال معناه الزّمخشري.
ثم قال : فإن قلت : أين نظير قوله تعالى :﴿وَأَنتَ حِلٌّ﴾ في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله تعالى :﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ [الزمر : ٣٠]، ومثله واسع في كلام العبادِ، تقول لمن تَعدُه الإكرام والحباء : أنت مكرم محبوٌّ، وهو في كلام اله أوسع ؛ لأنَّ الأحوال المستقبلة عنده، كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأنَّ تفسيره بالحال محال ؛ لأن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة وقت نزولها فما بال الفتح ؟ الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية، أي : لا أقسم بهذا البلد، وأنت حالٌّ بها، لعظم قدرك، أي : لا نقسم بشيء، وأنت أحق بالإقسام بك منك.
وقيل : المعنى : لا أقسم به، وأنت مستحلّ فيه، أي : مستحل إذ ذاك.
فصل في المراد بهذا البلد أجمع المفسرون على أن ذلك البلد " مكة "، وفضلها معروف، فإنه تعالى، جعله حرماً آمناً قال تعالى :﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران : ٩٧]، وجعل مسجده قبلة لأهل
٣٣٩
المشرق والمغرب، وقال تعالى :﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة : ١٤٤]، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ، فقال :﴿وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران : ٩٧] وقال تعالى :﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ [البقرة : ١٢٥]، وقال تعالى :﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج : ٢٦]، وقال تعالى :﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾ [الحج : ٢٧]، وشرف مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى :﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة : ١٢٥]، وحرم صيده، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل، وأكثر منها، لما اجتمعت في " مكة " لا جرم أقسم الله تعالى بها.
فصل في تفسير وأنت حلّ روى منصورٌ عن مجاهدٍ :" وأنْتَ حِلٌّ "، قال : ما صنعت فيه من شيء، فأنت حل.
وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل " مكة "، أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما، ولم يحل لأحد من الناس، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقلته.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ، ثم أطبقت، وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح " مكة ".
[قال ابن زيد : ولم يكن أحد حلالاً غير النبي ﷺ وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه، وهو محلك أي : من أهل " مكة " نشأت بينهم، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة : ١٢٨].
وقيل : أنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راضٍ].
وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل، ورجل حرم وحرام ومحرم.
وقال قتادة :" وأنت حل به " أي لست بآثم، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا
٣٤٠