قال الماورديُّ : ويحتمل ثانياً : إنه أراد فك رقبته، وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب.
فص في أن العتق أفضل من الصدقة قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : العِتْقُ أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدلّ على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة.
قوله :﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي : مجاعة، والسَّغبُ : الجوع، والسَّاغبُ : الجائع.
قال شهابُ الدِّين : والمسبغةُ : الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب.
قال الراغب : يقال سغَبَ الرجل يسغبُ سغباً وسغوباً فهو ساغبٌ، وسغبان، والمسغبةُ : مفعل منه.
وأنشد أبو عبيدة :[الطويل] ٥٢١٥ - فَلَوْ كُنْت جاراً يَا بْنَ قَيْسٍ بن عاصمٍ
لمَا بتَّ شَبْعَاناً وجاركَ سَاغِبا
٣٤٩
فصل إطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل.
وقال النخعي في قوله تعالى :﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، قال : في يوم عزيز فيه الطَّعام.
قوله :﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي : قرابة.
قال الزمخشريُّ :" والمَسْغبَةُ، والمَقربةُ، والمَتربةُ : مفعلات، من سغبَ إذا جاع، وقرب في النسب، قال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي، وترب إذا افتقر ".
وهذه الآية تدل على أن الصدقة على الأقارب، أفضل منها على الأجانب.
واليتيم : قال بعض العلماء : اليتيمُ في الناس من قبل الأب، وفي البهائمِ من قبلِ الأمَّهاتِ.
وقال بعضهم : اليتيمُ :" الذي يموت أبواه ".
قال قيس بن الملوح :[الطويل] ٥٢١٦ - إلى اللهِ أشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَما شَكَا
إلى الله فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
ويقال : يتم الرجل يتماً : إذا ضعف.
قوله :﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، أي : لا شيء له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر يقال : ترب أي افتقر حتى لصق جلده بالتراب، فأما أترب بالألف فمعناه استغنى نحو : أثرى أي صار مالكه كالتراب وكالثرى.
قال المفسرون : هو الذي ليس له مأوى إلا التراب.
وقال ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.
وقال مجاهد " الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره.
وقال قتادة : إنه ذو العيال.
وقال عكرمة عن ابن عباس : ذو المتربة هو البعيد عن وطنه، ليس له مأوى إلاَّ التراب.
فصل في أن المسكين قد يملك شيئاً احتجوا بهذه الآية على أن المسكين قد يملك شيئاً ؛ لنه لو كان المسكين هو الذي لا يملك شيئاً - ألبتة - لكان تقييده بقوله :" ذا مَتْربة " تكرير.
٣٥٠
قوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾.
التراخي في الإيمان، وتباعده في المرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت ؛ لأن الإيمان هو السابق، ولا يثبت عمل إلاَّ به.
قاله الزمخشري وقيل : المعنى : ثُمَّ كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ؛ لأنَّ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطَّاعات.
وقيل : التراخي في الذكر.
قال المفسرون : معناه أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبته، أو أطعم في يوم ذي مسبغة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي : صدقوا، فإنَّ شرط قبول الطاعات الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بعد الإنفاق لا ينفع، قال تعالى في المنافقين :﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ﴾ [التوبة : ٥٤].
وقيل :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي : فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة [فيكون المعنى : ثم كان مع تلك الطاعات من الذين آمنوا]، نظيره قوله تعالى :﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه : ٨٢].
وقيل : المعنى : ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.
وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله - تعالى - ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : إن " ثُمَّ " بمعنى : الواو، أي : وكان هذا المعتق للرقبة، والمطعم في المسبغةِ، من الذين آمنوا.
قوله :﴿وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ﴾، أي : أوصى بعضهم بعضاً على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب، ﴿وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ﴾، أي : بالرحمة على الخلق فإنَّهم إذا فعلوا ذلك، رحموا اليتيم والمسكين، ثم إنه تعلى بينهم، فقال تعالى :﴿أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾، أي : الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم، قاله محمد بن كعب القرظي.
[وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم.
وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن.
وقال ميمون بن مهران لأن منزلتهم عن اليمين].
قوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا﴾، أي : القرآن، ﴿هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ أي : يأخذون كتبهم
٣٥١