سورة البينة
قوله تعالى :﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ﴾، هذه قراءة العامة، وخط المصحف.
وقرأ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :" لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين " وهذه قراءة على التفسير.
قال ابن العربي :" وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي ﷺ في رواية الصحيح " فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ " وهو تفسيرٌ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف ".
وقرئ :" والمُشرِكُون " بالواو نسقاً على " الَّذينَ كَفَرُوا ".
قوله :﴿مُنفَكِّينَ﴾ اسم فاعل من " انفكَ "، وهي هنا التامة، فلذلك لم تحتج إلى خبر.
وزعم بعضهم : أنها هنا ناقصة، وأن الخبر مقدر، تقديره : منفكّين عارفين محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حيان : وحذف خبر " كَانَ " لا يجوز اقتصاراً، ولا اختصاراً.
٤٣٣
وجعلوا قوله :[الكامل] ٥٢٦٣ب - ……............................
يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ
أي : في الدنيا، ضرورة، ووجه من منع من ذلك أنه قال : صار الخبر مطلوباً من جهتين : من جهة كونه مخبراً به، فهو أحد جزئي الإسناد، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل، وهذا منتقض بمفعولي ظن، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان، أو أحدهما اختصاراً، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.
وقوله :﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ﴾ متعلق بـ " لَمْ يَكُنْ " أو بـ " مُنفكِّينَ ".
فصل قال الواحديُّ : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب : ووجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، فانفكوا عنه لأن " حتَّى " لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ﷺ، لكن قوله تعالى :﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول - عله الصلاة والسلام - فحينئذ يحصل التناقض، والجواب من وجوه : أحدها : وهو أحسنها، ما لخصه الزمخشريُّ : أن الأول حكاية ما كانوا قولونه من أنه ﷺ الموعود به لا ينفك عما نحن عليه من ديننا.
والثاني : إخبار عن الواقع، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول - عليه الصلاة والسلام -، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا.
وثالثها : المعنى : لم يكونوا منفكين عن كفرهم، وإن جاءتهم بينة، قاله القاضي.
إلا أن جعل " حتى " بمعنى " أن " بعيد في اللغة.
ورابعها : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد ﷺ بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى :﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ﴾ [البقرة : ١٠٢]، أي ما تلت أي : ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة : ٨٩].
وخامسها : أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.
٤٣٤
وسادسها : هي كقوله تعالى :﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ [البقرة : ٢١٣] الآية، أي : كان منهم جازماً بمذهبه ودينه، فلما بعث محمد ﷺ شكوا في أديانهم، لأن قوله تعالى ﴿مُنفَكِّينَ﴾ مشعر بهذا ؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه، فمعناه : أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد، وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا قال ابن عباس : أهل الكتاب الذين كانوا بـ " يثرب "، وهمك قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا بـ " مكة " وما حولها، و " المدينة "، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى :﴿مُنفَكِّينَ﴾ أي : منتهين من كفرهم ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل : لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة.
وقيل : منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله ﷺ، والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي : ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه : فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل :" مُنفكِّينَ "، بارحين، أي : لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد ﷺ ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث ﷺ حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة : ٨٩]، ولهذا قال تعالى :﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ [البينة : ٤]، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ أي : ما كانوا يسيئون القول في محمد ﷺ حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم ﷺ فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين :" مُنفكِّينَ "، أي : هالكين، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى : لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين قال قوم : المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال : عزيز ابن الله ومن النصارى من قال : عيسى هو الله.
٤٣٥


الصفحة التالية
Icon