وقيل : لو تعلمون لماذا خلفتم لاشتغلتم وحذفُ الجواب أفخر، لأنه يذهب الوهم معه كل مذهب، قال تعالى :﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ﴾ [الأنبياء : ٣٩]، وقال تعالى :﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام : ٣٠] وأعاد " كلاَّ " وهو زجر وتنبيه ؛ لأنه عقب كل واحد بشيء آخر، كأنه قال : لا تفعلُوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب.
و ﴿عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ مصدر.
قيل : وأصله العلم اليقين، فأضيف الموصوف إلى صفته.
وقيل : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن العلم يكون يقيناً وغير يقين، فأضيف إليه إضافة العام للخاص، وهذا يدل على أنَّ اليقينَ أخصُّ.
فصل في المراد باليقين قال المفسِّرون : أضاف العلم إلى اليقين، كقوله تعالى :﴿لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة : ٩٥]، قال قتادة : اليقين هنا : الموت.
وعنه أيضاً : البعث، لأنه إذا جاء زال الشكُّ، أي : لو تعلمون علم البعث أو الموت، فعبر عن الموت باليقين، كقولك : علم الطب، وعلم الحساب، والعلم من أشد البواعث على الفعل، فإذا كان بحيث يمكن العمل، كان تذكرة، وموعظة، وإن كان بعد فوات العمل كان حسرة، وندامة، وفيها تهديد عظيم للعلماء، الذين لا يعمبون بعلمهم.
قوله :﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾.
جواب قسم مقدر، أي : لترون الجحيم في الآخرة.
والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار.
وقيل : عام [كقوله تعالى :﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم : ٧١] فهي للكفار دار، وللمؤمنين مَمَرّ].
وقرأ ابن عامر، والكسائي :" لتُروُنَّ " مبنياً للمفعول، وهي مفعولة من " رأى " الثلاث أي : أرأيته الشيء، فاكتسب مفعولاً آخر، فقام الأول مقام الفاعل، وبقي الثاني منصوباً.
٤٨٠
والباقون مبنياً للفاعل، جعلوه غير منقول، فتعدى لواحد فقط، فإن الرية بصرية.
وأمير المؤمنين، وعاصم، وابن كثير في رواية عنهم : بالفتح في الأول، والضم في الثاني، يعني : لترونها.
ومجاهد، وابن أبي عبلة، وأشهب : بضمها فيهما.
والعامة على أن الواوين لا يهمزان ؛ لأن جرمتهما عارضة.
وقد نصّ مكي، وأبو البقاء على عدم جوازه، وعللا بعروض الحركة.
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما : بهمز الواوين استثقالاً لضمة الواو.
قال الزمخشري :" هِيَ مُسْتكرَهة "، يعني لعروض الحركة عليها، إلا أنهم قد همزوا ما هو أولى لعدم الهمز من هذه الواو، نحو :﴿اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ﴾ [البقرة : ١٦] همزوا واو " اشترؤا " مع أنها حركة عارضة، وتزول في الوقف، وحركة هذه الواو، وإن كانت عارضة، إلا أنَّها غير زائلة في الوقف، فهو أولى بهمزها.
قوله :﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ هذا مصدر مؤكد، كأنه قل : رؤية اليقين نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى.
وقال أبو البقاء : لأن " رأى "، و " عان " بمعنى.
فصل في معنى الآية معنى الكلام :" لَتَوُنَّ الجَحِيمَ " بأبصاركم على البعد " ثُمَّ لتَروُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ " أي : مشاهدة.
وقيل :" لَوْ تَعْلَمُونَ عِلمَ اليَقِينَ "، معناه :" لَوْ تَعْلَمُونَ " اليوم في الدنيا " عِلمَ اليَقِينِ " بما أمامكم مما وصفت " لَتَروُنَّ الجَحِيم " بعيون قلوبكم، فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك، وهو أن يصور لك نار القيامة " ثُمَّ لتَرونَّها عَيْنَ اليَقِينِ "، أي : عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقيناً، لا تغيب عن عينك، ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ في موقف السؤال والعرض.
قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - لما نزلت هذه الآية، قال : يا رسول الله ﷺ : أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن
٤٨١
التيهان من خبز شعيرٍ، ولحم، وبسر، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي يسأل عنه ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - " إنما ذلِكَ للكُفَّارِ " ثم قرأ :﴿وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ﴾ [سبأ : ١٧] ؛ ولأن ظاهر الآية يدل على ذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا، والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله، والاشتغال بذكر الله تعالى، يسألهم عنها يوم القيامة، حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم.
وقيل : السؤال عام في حق المؤمن، والكافر لقوله ﷺ :" أوَّلُ ما يُسْألُ العِبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ عن النَّعِيمِ، فيقالُ لَهُ : ألَمْ نُصْحِحْ جِسْمكَ ؟ ألَمْ نَروِكَ مِنْ المَاءِ البَاردِ " ؟ وقيل : الزائد عما لا بد منه.
وقيل غير ذلك.
قال ابن الخطيب : والأولى على جميع النعيم، لأن الألف واللام تفيد الاستغراق، وليس صرف اللفظ إلى بعض أولى من غيرها إلى الباقي، فيسأل عنها، هل شكرها أم كفرها ؟ وإذا قيل : هذا السؤال للكفار.
فقيل : السؤال في موقف الحساب.
وقيل : بعد دخول النار، يقال لهم : إنَّما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
والله أعلم.
٤٨٢
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٤٧٥