قال الليث : الرحلة اسم لارتحال القوم للمسير وقيل : رحلة اسم جنس، وكانت له أربع رحل، وجعله بعضهم غلظاً، وليس كذلك.
قال القرطبي :" رِحْلة " نصب بالمصدر أي : ارتحالهم رحلة، أو بوقوع " إيْلافِهم " عليه، أو على الظرف، ولو جعلتها في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء، والصيف، لجاز.
وقرأ العامة : بكسر الراء، وهي مصدر.
وأبو السمال : بضمها، وهي الجهة التي يرتحل إليها، والشتاء : واد، شذُّوا في النسب إليه، فقالوا : شتوي، والقياس : شِتَائي، وشِتَاوي كـ " كسائي، وكِسَاويّ ".
وقال الهروي وغيره : كان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة : هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل بن عبد مناف، فأما هشام فإنه كان يؤلف ملك " الشام "، أي : أخذ منه حبلاً وعهداً يأمن به في تجارته إلى " الشام "، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى " الحبشة "، والمطلب إلى " اليمن "، ونوفل إلى " فارس "، ومعنى يؤلف : يجير، فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين، فكان تُجَّارُ قريشش يختلفون إلى الأمصار، بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم.
٥٠٨
قال الزهري : الإيلاف : شبه الإجارة بالخفارة، يقال : آلف يؤلف : إذا أجار الحمائل بالخفارة، والحمائل : جمع حمولة.
قال : والتأويل : أن قريشاً كانوا سكان الحرم، ولم بكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء، والصيف آمنين، والناس يتخطَّفُون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى " الشام " ؛ لأنها بلاد باردة.
وعن ابن عباس، قال : يشتون بـ " مكة " لدفئها، ويصيفون بـ " الطائف " لهوائها، وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة..

فصل في الشتاء والصيف قال مالك : الشتاء نصف السُّنة، والصيف نصفها.


وقال قوم آخرون : الزمان أربعة أقسام : شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
وقيل : شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف.
قال القرطبيُّ : والذي قال مالك أصح ؛ لأن اللهَّ قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً.
قوله :﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا الْبَيْتِ﴾، أمرهم تعالى بعبادته، وتوحيده لأجل إيلافهم رحلتين، وتقدم الاكلام على الفاء، والبيت هو الكعبة، وفي تعريف نفسه بأنه تعالى رب هذا البيت وجهان : أحدهما : أنها كانت لهم أوثان، فميز نفسه تعالى عنها.
الثاني : لأنهم شُرِّفوا بالبيت على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً لنعمته.
وقيل : المعنى : أن يعبدوا رب هذا البيت، أي ليألفوا عبادة رب هذا البيت كما كانا يألفون الرحلتين.
﴿الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾، أي : من أجل الجوع، و " آمنهم " من أجل الخوف، والتنكي للتعظيم أي : من جوع وخوف عظيم.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون في موضع الحال من مفعول " أطْعَمَهُمْ ".
٥٠٩
وأخفى نون " من " في الخاء : نافع في رواية، وكذلك مع العين، نحو :" من على "، وهي لغة حكاها سيبويه.
فصل في مكان قريش قال ابنُ عبَّاسٍ : وذلك بدعوة إبراهيم - عليه السلام - حيث قال :﴿رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة : ١٢٦].
وقال ابن زيد : كانت العرب يغيرُ بعضهاعلى بعض ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم.
وقيل : شق عليهم السَّفر في الشتاء والصيف، فألقى الله - تعالى - في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السَّفر، فخافت قريش منهم وظنُّوا أنهم خرجوا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا لهم الطعام، وأعانوهم بالأقوات، فكان أهلُ " مكة " يخرجون إلى " جدة " بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين.
وقيل : إن قريشاً لما كذبوا النبي ﷺ دعا عليهم، فقال :" اللَّهُم اجْعلهَا عَليهِمْ سِنيْنَ كَسني يُوسُفَ " فاشتد القحط، فقالوا : يا محمد، ادعُ الله لنا فإنا مؤمنون، فدعا لهم رسول الله ﷺ فأخصبت " تبالة "، و " جرش " من بلاد " اليمن "، فحملوا الطعام إلى " مكة "، وأخصب أهلها.
وقال الضحاك وربيع وشريك وسفيان : وآمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.
وقال علي رضي الله عنه : وآمنهم من أن تكون الخلافة إلا فيهم.
وقيل : كفاهم أخذ الإيلاف من المملوك.
روى الثعلبي عن أبيّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ أعطِيَ من الأجْرِ حَسناتٍ بعَددِ مَنْ طَافَ بالكَعْبَةِ، واعْتكََ بِهَا " والله أعلم.
٥١٠
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٠٣


الصفحة التالية
Icon