قال القرطبيُّ :" وهذا القول يشهد له الاشتقاقُ، فإن الفلق : الشَّق، يقال : فلقت الشيء فلقاً، أي : شققته، والتفليق مثله، يقال : فلقته وتفلق، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق : قال تعالى :﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾ [الإنعام : ٩٦] وقال عز وجل - :﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ [الأنعام : ٩٥].
[والفلق مقطرة السَّمان، فأما الفِلق بالكسر فهو الداهية، والأمر العجيب يقال منه : أفلق الرجل وافتلق، وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق ؛ قال الشاعر :[الرجز] ٥٣٥٦ - واعجَبَاً لِهَذِهِ الفَليقهْ
هَلْ يُذْهِبَنَّ القُوَيَاءَ الريقَهْ
والفِلْقُ أيضاً : القضيب يشق باثنين، فيعما منه قوسان، يقال لكل منهما : فِلْق، وقولهم : جاء بُعلق فلق وهي الداهيةِ، يقال منه أعلقت وأفلقت.
أي جئت بعُلق فلق، ومر يفتلق في عدوه أي بالعجب من شدته] قوله :﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، متعلق بـ " أعوذ "، والعامة : على إضافة " شرِّ " إلى " ما "، وقرأ عمرو بن فايد :" مِنْ شرِّ " بالتنوين.
وقال ابن عطية : وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة الذين يرون أن الله لم يخلق الشَّر :" مِنْ شرِّ " بالتنوين، " مَا خلقَ " على النفي وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيةٌ على مذهب باطل انتهى.
ولا يتعين أن تكون " ما " نافية، بل يجوز أن تكون موصولة بدلاً من " ِرّ " على حذف مضاف، أي : من شر شر ما خلق، عمم أولاً، ثم خصص ثانياً.
وقال أبو البقاء : و " ما " على هذا بدل من " شر "، أو زائدة، ولا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن النافية، لا يتقدم علهيا ما في حيزها، فلذلك لم يجز أن يكون التقدير : ما خلق من شر، ثم هو فاسد ف المعنى.
وهو رد حسن صناعي، ولا يقال :" إن " مِنْ شرِّ " متعلق بـ " أعُوذُ " وقد أنحى مكي على هذا القائل، ورده بما يقدم.
و " ما " مصدرية، أو بمعنى " الذي ".
فصل في المقصود بشر ما خلق روى عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس خاصة ؛ لأن الله تعالى لم يخلق أشرَّ منه،
٥٧٠
وأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السِّحر، وذلك إنَّما يتم بإبليس وجنوده، لعنهم الله، وقيل : جهنم وما خلق فيها.
وقيل : عام ؛ أي من شر كل ما خلقه الله وقيل : ما خلق الله من الأمراض، والأسقام [والقحط] وأنواع المِحَنْ.
وقال الجبائي والقاضي : هذا التقييد باطل ؛ لأن فعل الله - تعالى - لا يجوز أن يوصف بأنه شر ؛ لأن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمر به، وذلك متناقض ؛ لأن أفعاله - تعالى - كلها حكمة وصواب، فلا يجوز أن يقال : شرّ.
وأيضاً : فلأن فعل الله لو كان شرَّا ؛ لوصف فاعله بأنه شر، وتعالى الله عن ذلك.
والجواب عن الأول : أنه لا امتناع في قوله : أعوذ بك منك، كما رد عن الثاني أن الإنسان لم تألم وصف بالألم كقوله تعالى :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠]، وقوله تعالى :﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة : ١٩٤].
وعن الثالث : أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، ومما يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى :﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾ [المعارج : ٢٠].
قوله :﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾، " إذا " منصوب بـ " أعوذ " أي : أعوذ بالله من هذا في وقت كذا، كذا.
والغسقُ : هو أول ظلمةِ الليل، يقال منه : غسق الليل يغسق، أي " يظلم.
قال ابن قيس الرقيَّات :[المديد] ٥٣٦٦ - إنَّ هَذا اللَّيْلَ قدْ غَسَقا
واشْتكَيْتُ الهَمَّ والأرَقَا
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٦٨
وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم، ووقب على هذا : أظلم.
وقيل : نزل، قال : وقب العذاب على الكافرين : نزل.
٥٣٦٧ - وقَبَ العَذابُ عَليْهِمُ فكَأنَّهُمْ
لحِقَتْهُمْ نَارُ السَّمُومِ فاحصِدُوا
٥٧١
وقال الزجاج : قيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النَّهار، والغاسق : البارد، والغسق : البرد ؛ ولأنَّ في الليل تخرج السِّباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشرِّ على العبث، والفسادِ، فاستعير من الليل.
قال الشاعر :[البسيط] ٥٣٦٨ - يَا طَيْفَ هِنْدٍ لقَدْ أبْقَيْتَ لِي أرقاً
إذْ جِئْتنَا طَارِقاً والليلُ قَدْ غَسَقا