قِطيعَة رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجلْ "، قَالُوا : وَمَا الاسْتِعْجَالُ، يَا رَسُولَ الله ؟ قَالَ : يَقُولُ : قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّن قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّن فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء وثالثها : أنَّ قوله ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول : أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك ؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال.
ورابها : أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة : فقيل : الدعاء عبارةٌ عن : التوحيد والثَّناء على الله تعالى ؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قال ابن الأنباريِّ :" أُجِيبُ " ههنا بمعنى " أًسْمَعُ " ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا :" سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، أي : أجاب الله، فكذا هاهنا قوله :﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾، أي : أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى ﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ على هذا الوجه، زال الإشكال.
وقيل : المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب ؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال.
وقيل : المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام : الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر : ٦٠] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة.
وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع ؛ كما قال ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [الشورى : ٢٦] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت، قال : سمعتُ رسولَ الله - ﷺ - يقولُ :" أعطيت أُمَّتي ثلاثاً، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء : كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ، قَالَ :" ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ "، وقال لهذه الأُمَّة :" ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " وكان الله إذا بعث النَّبيَّ، قال له :" مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في
٢٩٩
الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج : ٧٨] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس " وخامسها :﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً.
وسادسها : روى عُبادةُ بن الصَّامت ؛ أنَّ النَّبيَّ - ﷺ - قال :" مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ " وسابعها : إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده، ليدعوه فيسمع صوته، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه ؛ لأنه يبغض صوته.
فصل قال سفيان بن عيينة : لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس، لَعَنَةُ اللَّهُ ؛ قال :﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ [الأعراف : ١٤ - ١٥].
وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، كالسَّحرِ، ووقت الفطِر، وما بين الأذانِ والإقامة، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الإضرار وحالة السَّفر والمرض، وعند نزول المطر، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ.
وروى شهرُ بن حوشب ؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ : يا شهرُ، ألا تجدُ القشعريرة ؟ قلت : نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك.
قوله :﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي﴾ في الاستفعالِ هنا قولان : أحدهما : أنَّه للطلب على بابه، والمعنى : فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي، قاله ثعلبٌ.
الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال : ٢٤].
٣٠٠