والثاني : أنه بمعنى الإفعال، فيكون استفعل وأفعل بمعنى، وقد جاءَت منه ألفاظ، نحو : أقرَّ واستقرَّ ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ، فقد جاء متعدّياً بنفسه، وبحرف الجَرِّ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدّىً بحرف الجرِّ نحو :﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء : ٨٤] ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ﴾ [آل عمران : ١٩٥] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي :[الطويل] ٩٤٩ - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٢
ولقائل أنْ يقُول : يحتملُ هذا البيت : إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ.
واللامُ لامُ الأمر، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ : بأنَّ " اسْتَجَابَ " لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه ؛ نحو :﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم﴾، وأمَّا " أَجَابَ " فأعمُّ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً.
والجمهورُ على " يَرشُدُونَ " بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه : رَشَدَ بالفتح، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرئ بفتحها، وماضيه رشِد بالكسر، وقرئ :" يُرْشَدُونَ " مبنيّاً للمفعول، وقرئ :" يُرْشِدُونَ " بضم الياء وكسر الشين من " أَرْشَدَ "، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه : يُرْشِدُونَ غيرهم " والرُّشْدُ " هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا ؛ قال تبارك وتعالى :﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً﴾ [النساء : ٦] وقال ﴿أُوْلَـائِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات : ٧ - ٨].
قال القرطبي : و " الرُّشْدُ " خلاف الغيِّ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد : مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ.
وقال الهرويُّ : الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ : الهدى والاستقامة ؛ ومنه قوله تعالى :" يَرْشُدُونَ ".
فإنْ قيل : إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان، فذاك هو الإيمانُ، وعلى هذا، فيكونُ قوله :﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي﴾ تكراراً محضاً، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات، وكان حقُ النَّظم أن يقول :" فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي " فلم جاء على العكس.
٣٠١
فالجواب : أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٢
قوله تعالى :﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ منصوبٌ على الظرف، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ : أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين - :" أُحِلَّ "، وليس بشيءٍ ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت.
الثاني : أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ " الرَّفَث "، تقديرُه : أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام ؛ كما خرَّجوا قول الشاعر :[الهزج] ٩٥٠ - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَهـ
ـلِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ
أي : إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث ؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور.
الثالث : أنه متلِّق بالرَّفثِ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ، وقد تقدَّم تحقيقه.
وأضيفت اللِّيلةُ للصيام ؛ اتِّساعاً، لأنَّ شرط صحته، وهو النيةُ، موجودةً فيها، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول : الليلة : عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك.
والجمهورُ على " أُحِلَّ " مبنيّاً للمفعول للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقرئ مبنياً للفاعل، وفيه حينئذٍ احتمالان :
٣٠٢