ومنها : أن تمرض، أو ينقطع لبنها.
فعند أحد هذه الوجوه، إذا وجدنا مرضعةً أخرى، وقبل الطفل لبنها، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها.
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ.
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير، فقال :﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا ااْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦٨
في " الَّذِينَ " أوجهٌ : أحدها : أنَّها مبتدأٌ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به ؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد، فجاء الخبر عن المقصود، إذ المعنى : من مات عنها زوجها، تربَّصت، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء ؛ وأنشد الفراء :[الطويل] ١١٣٠ - لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً
عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا
فقال : لَعَلِّيَ " ثم قال :" أَنْ يَتَنَدَّمَ " فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم ؛ إذ التقدير : لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً.
وقال آخر :[الطويل] ١١٣١ - بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ
بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ.
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء : أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني ؛ نحو :" إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ "، المعنى : إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت ا لأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب.
قوله :[الوافر] ١١٣٢ - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي
وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ
١٨٨
وأنكر المبرد والزجاج ذلك ؛ قالا : لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.
الثاني : أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه : أحدها : أنه " يَتَرَبَّصْنَ "، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول ؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير : وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله :﴿وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه.
والتقدير : يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش.
وثالثها : أنَّ " يَتَرَبَّصْنَ " خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير : أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد.
ورابعها : أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله " يَتَرَبَّصْنَ " جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه.
قال ابن عطيَّة : وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى :" وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ "، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه ؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى :﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ااْ﴾ [المائدة : ٣٨] ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ﴾ [النور : ٢] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.
وخامسها : أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير :" وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ " فحذف " أَزْوَاجُهُمْ " بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ.
وقال القرطبيُّ : المعنى : والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ " " وَيَذَرُونَ " - أي : يتركون - " أَزْوَاجاً " - أي : ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات " يَتَرَبَّصْنَ " قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ ؛ قال تعالى :﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ﴾ [الحج : ٧٢] أي هو النَّار.
وقرأ الجمهور " يُتَوَفَّوْنَ " مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه : يموتون ويقبضون ؛ قال تعالى :﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر : ٤٢]، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات، فقد وجد عمره وافياً كاملاً.
١٨٩