واحتجَّ الشَّافعيُّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر ؛ لأن قوله تعالى :﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ليس كلاماً تاماً، بل لا بدَّ من إضمار، [شيءٍ، ليتم] الكلام، فإمَّا أن يضمر :" فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ "، أو يضمر :" فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ "، والإضمار الأوّل هو المقصود ؛ لوجوه : أحدها : أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة " إِنْ " عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً ؛ فلو حملناه على الوجوب، تركنا العلم بمقتضى التعليق، لأنّه غير منفي قبله، وإذا حملناه على السقوط، عملنا بمقتضى التَّعليق ؛ لأنه منفيٌّ قبله.
وثانيها : أنَّ قوله تعالى :﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر، لزمه الكلُّ بقوله تعالى :﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة : ١] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ، فكان سقوط البعض ها هنا، هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط، أولى من حملها على بيان الوجوب.
وثالثها : أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر، قد تقدمت في قوله :﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً﴾ [البقرة : ٢٢٩] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى.
ورابعها : أن المذكور في هذه الآية، هو الطلاق قبل المسيس، وهو يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيءٍ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى، لا جرم استقصينا هذه الوجوه ؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجبٌ، وتخصيص النصف بالوجوب، لا يدلُّ على سقوط الآخر، إلاّ من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة.
وقد ذكرنا هذه الوجوه ؛ دفعاً لهذا السؤال.
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى :﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ [النساء : ٢٠] إلى قوله :﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء : ٢١] فنهى تعالى عن أخذ المهر، ولم يفرّق بين الطلاق، وعدم الطَّلاق، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر، وعلَّل بعلَّة الإفضاء، وهي الخلوة، لأنَّ الإفضاء : مشتقٌّ من الفضاء، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر.
والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامٌّ، ودليلنا خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ.
قوله تعالى :﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ﴾ : هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل، وأن يكون ضمير المفعول ؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما،
٢١٧
والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن، أو مفروضاً لهنَّ، و " فَرِيضَة " فيها الوجهان المتقدمان.
والفاء في " فَنِصْفُ " جواب الشرط، فالجملة في محلِّ جزمٍ ؛ جواباً للشرط، وارتفاع " نِصْفُ " على أحد وجهين : إمَّا الابتداء، والخبر حينئذٍ محذوفٌ، وإن شئت قدَّرته قبله، أي : فعليكم أو فلهنَّ نصف، وإن شئت بعده، أي : فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف، تقديره : فالواجب نصف.
وقرأت فرقةٌ : فَنِصْفَ " بالنصب على تقدير :" فَادْفَعُوا، أَوْ أَدُّوا "، وقال أبو البقاء :" ولو قُرِئَ بالنصبِ، لكان وجهه فَأَدَّوا [نِصْفَ] " فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً.
والجمهور على كسر نون " نِصْف "، وقرأ زيدٌ وعليٌّ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو :" فَنُصْف " بضمِّ النون هنا، وفي جميع القرآن، وهما لغتان، وفيه لغةٌ ثالثة :" نَصِيف " بزيادة ياءٍ، ومنه الحديث :" مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ ".
والنَّصيف - أيضاً - : القناع، قاله القرطبي، والنِّصف : الجزء من اثنين، يقال : نصف الماء القدح، أي : بَلَغَ نِصْفَهُ، ونَصَفَ الإزار السّاق، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره، فقد نصفه.
و " مَا " في " مَا فَرَضْتُمْ " بمعنى " الَّذِي "، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى :﴿إَلاَّ أَن يَعْفُونَ﴾ في هذا الاستثناء وجهان : أحدهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطيَّة وغيره : لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ ".
والثاني : أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال ؛ لأَنَّ قوله :" فنصفُ ما فَرَضْتُمْ " معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال، إلا في حال عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يجب، وإليه نَحَا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه :﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف : ٦٦] وقال
٢١٨


الصفحة التالية
Icon