وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً ؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديره : وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح.
قوله :﴿لِلتَّقْوَى ﴾ متعلِّقٌ بـ " أَقْرَبُ " وهي هنا للتعديةِ، وقيلَ : بل هي للتعليل، و " أَقْرَبُ " تتعدَّى تارةً باللام، كهذه الآيةِ، وتارةً بـ " إِلَى " ؛ كقوله تعالى :﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق : ١٦]، وليست " إِلَى " بمعنى " اللام "، وقيل : بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ، ومعنى اللامِ و " إِلَى " في هذا الموضع يتقارَبُ.
وقال أبو البقاء : يجوزُ في غير القرآن :" أَقْرَبُ مِنَ التقوَى، وإِلَى التقْوَى "، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [معنًى] غير معنى " إِلَى "، وغير معنى " مِنْ "، فمعنى اللامِ : العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو، وإذا قلتَ : أقربُ إلى التقوى، كان المعنى : يقاربُ التقوى ؛ كما تقول :" أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ "، و " أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى " يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى، وليس معنى الآية على هذا.
انتهى.
فجعل اللام للعلة، لا للتعدية، و " إِلَى " للتعدية.
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً ؛ نحو :" مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ "، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً، تعدَّيا بالباءِ ؛ نحو :" هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ "، وإِنْ كان لا يفهم ذلك، تعدَّيا باللامِ، نحو :" مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ " و " أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو " إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول بـ " في "، نحو :" مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ " وإلى الفاعل المعنويِّ بـ " إِلَى "، نحو " زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو "، أي : إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ.
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه : أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو، وواوها بدلٌ من ياءٍ ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة.
فصل وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى ؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه، فهو محسنٌ، ومَنْ كان مُحْسِناً، استحقَّ الثواب، وإذا استحق الثواب، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم، وترك الظلم تقوى في
٢٢٣
الحقيقة ؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره.
قوله :﴿وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ " تَنْسَوا " ؛ لأنها واوٌ ضمير، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو " لَوْ " كما ضَمّوا الواو من " لَو " ؛ تشبيهاً بواو الضمير، وقال أبو البقاء في واوِ " تَنْسَوا " من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في ﴿اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ﴾ [البقرة : ١٦]، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما.
وقرأ علي ـ رضي الله عنه ـ :" وَلاَ تَنَاسَوا " قال ابن عطيَّة :" وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى ؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ، لا نِسْيَانٍ، إلاَّ على التشبيه "، وقال أبو البقاء :" على باب المفاعلةِ، وهي بمعنى المتاركةِ، لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة.
قوله تعالى :" بَيْنَكُمْ " فيه وجهان.
أحدهما : أنه منصوبٌ بـ " تَنْسَوا ".
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل، أي كائناً بينَكثمْ، والأولُ أَوْلَى ؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ، أي : إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها، حثَّهما جميعاً على الإحسان، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد، فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
قال القرطبي : هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين، والحِرمانُ لغير المحسنين، أي : لا يخفى عليه عفوكم، واستقضاؤكم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢١٦
قوله تعالى :﴿حَافِظُواْ﴾ : في " فَاعَلَ " هنا قولان : أحدهما : أنه بمعنى " فَعِلَ "، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها بـ " عَلَى ".
٢٢٤


الصفحة التالية
Icon