الثاني : أنَّ " فَاعَلَ " على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ : بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل : احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل : بين العبدِ والصلاةِ، أي : احفَظْها تَحْفَظْك.
وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ : الأول : أنها تحفظه مِنَ المعاصي ؛ كقوله :﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت : ٤٥].
الثاني : تحفظه من البَلايا، والمِحَن ؛ لقوله :﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ [البقرة : ٤٥]، وقال الله :﴿إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة : ١٢] أي : معكم بالصَّبر، والحفظ.
الثالث : تحفظُه : بمعنى تشفعُ له ؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ.
وقال أبو البقاء : ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين ؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ ؛ كما قالوا في ﴿وَاعَدْنَا مُوسَى ﴾ [البقرة : ٥١] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد ؛ وفي " حَافِظُوا " معنى لا يُوجَدُ في " احْفَظُوا " وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ.
قوله تعالى :﴿والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى :﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ﴾ [البقرة : ٩٨] والوُسطى : فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام - :[البسيط] ١١٤٧ - يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ
وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه : متوسِّطٌ بين شيئين ؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين ؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ علي :" وَعَلَى الصَّلاَةِ " بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - " وَالصَّلاَةَ " بالنصبِ، وفيها وجهان : أحدهما : على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ.
٢٢٥
والثاني : على موضع المجرورِ قَبْلَهُ ؛ نحو : مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -.
قال القرطبي : وقرأ أبو جعفر الواسطي " والصَّلاَةَ الوُسْطَى " بالنصب على الإِغراء أي : والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع " الوُصْطَى " بالصَّادِ ؛ لمجاورَة الطاءِ ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان ؛ كالصراط ونحوه.
فصل لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان : النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة.
وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً ؛ لأن قوله :﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال :﴿والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة ؛ وإلاَّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا : إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة.

فصل هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها.


قالوا : والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ : أحدها : قوله تعالى :﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم : ١٧].
فقوله :" سُبْحَانَ اللهِ " أي : فسبِّحوا اللهَ، معناه : صلُّوا للهِ حين تمسون، أراد به صلاة المغربِ، والعِشَاءِ، " وَحِينَ تُصْبِحُونَ " أراد صلاة الصُّبح، و " عَشيّاً " أراد به [صلاة] العصر، و " حِينَ تُظْهِرُونَ "، صلاة الظهر.
الثانية : قوله تعالى :﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ﴾ [الإسراء : ٧٨] أراد بـ " الدلوك " زوالها، فدخل في الآية : صلاةُ الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال :﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ [الإسراء : ٧٨] أراد صلاة الصُّبح.
الثالثة :﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه : ١٣٠] قالوا : لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ، أو قبل غروبها، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين.
٢٢٦


الصفحة التالية
Icon