إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك ؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل ؛ لتبقى لهم تلك العلوم، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ، ولا هولاً، فذلك أيضاً ممكن.
وقال قتادة : إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم.
فصل واختلفوا في عدّتهم.
قال الواحديُّ - رحمه الله - : لم يكنوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفاً.
والوجه من حيث اللَّفظ : أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف ؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف، وقيل : إنَّ الألوف جمع ألفٍ، كقعودٍ وقاعدٍ، وجلوسٍ، وجالسٍ، والمعنى : أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب.
قال القاضي : والوجه الأوَّل أولى ؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً، وهم كثرةٌ عظيمةٌ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم ؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر.
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته، محباً لهذه الدُّنيا، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة : ٩٦]، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة، لا يعصمه من الموت، فهذا القول ليس ببعيدٍ.
فصل قال القرطبيُّ : الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن، غير أنَّه لما عدل به عن أصله ؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء.
قاله الجوهريُّ.
وردت عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رسول الله ﷺ قال :" فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ " قالت : الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون، قال :" غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ " قال
٢٥١
العلماء : وهذا الوباء يرسله الله نقمة، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده، وكفرتهم، وقد يرسله الله شهادة، ورحمة للصَّالحين، كقول معاذٍ في طاعون عمواس : إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :" اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ "، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رضي الله عنه -.
فصل وروى البخاريُّ : أنَّ رسول الله ﷺ قال حين ذكره الوباء :" إنَّه رجزٌ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ، فيذهب المرَّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرضٍ، فلا يقدمنَّ عليه، ومن كان بأرضٍ وقع بها، فلا يخرج فراراً منه " وعمل عمر - رضي الله عنه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من " سَرْغ " حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث.
وقالت عائشة - رضي الله عنها - " الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ ".
قال الطَّبريُّ : يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :" لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا "، ولما خرج عمر - رضي الله عنه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع، فقال له أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله، فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ ! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات، ثمَّ قال له : أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة.
قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾.
٢٥٢