محمد أن تلك الخطابات ثابتة في حَقِّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة ؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم.
فصل في المراد بالعبادة في القرآن قال ابن عبَّاس رضي الله عنه :" كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد ".
وقال ابن الخطيب : قوله تعالى :﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ أمر كلّ واحد بالعبادة، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة ؟ الحقّ لا ؛ لأن قوله :﴿اعْبُدُواْ﴾ معناه : أدخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود ؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا :" اعْبُدُوا "، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة.
فصل في قول منكري التكليف ذكر ابن الخطيب عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه : منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف : إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر به، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله، وهو محال.
وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة، أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود، أو إلى العابد، أمّا إلى المعبود فمحال ؛ لأنه كامل لذاتهن والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده.
وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد، من غير واسطة هذه المشاق، فيكون توسّطها عبثاً،
٤٠٩
والعبث غير جائز على الحكيم.
وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله ؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال، وكل ذلك باطل.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين : أحدهما : أن أَصْحَابَ هذه الشّبه، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف، فهذا التكليف ينفي التكليف، وإنه متناقض.
والثاني : أن عندنا يحسن من الله كل شيء، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره ؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ.
والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى، ويُطْلَقُ أيضاً على التقْدِيرِ " ؛ قال زُهَيْر :[الكامل] ٢٧٥ - وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ
ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٠٥
وقال الحَجَّاج :" ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ " وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم " الخَالِقِ " على الله - تعالى ؛ قال :" لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والزَّن "، وكأنه لم يسمع قوله تعالى :﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ﴾ [الحشر : ٢٤] ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر : ٦٢]، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع.
قوله :﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ محلّه العطف على المنصوب في " خلقكم " و " من قبلكم " صلة " الذين "، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
و " من " لابتداء الغاية، واستشكل بعضهم وقوع " من قبلكم " صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و " من قبلكم " ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصّلة.
قال : وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول :" نحن في يوم طيب "، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - " والَّذِينَ كانوا من زمان قبل زمانكم".
وقالأبو البقاء : والتقدير : والذين خلقهم من قبل خلقكم، فحذف الخلق، وأقام الضمير مقامه".
وقرأ زيد بن علي :"والذين مِنْ قَبْلَكُمْ " - بفتح الميم -.
٤١٠
قال الزمخشري : ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله :[البسيط] ٢٧٦ - يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لاَ أَبَا لَكُمُ
............................


الصفحة التالية
Icon