قوله تعالى :﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، و " نَتْلُوهَا " فيه قولان : أحدهما : أن تكون حالاً، والعامل فيها معنى الإشارة.
والثاني : أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها.
ويجوز غير ذلك، وهو يؤخذ مما تقدم.
قال القرطبيُّ : وإن شِئْتَ كان " آيَاتُ الله " بدلاً، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله :﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة : ٢] أن " تلك " و " ذَلِكَ " يرجع إلى معنى هذه، وهذا، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى، ومضى، فكانت في حكم الغائب، فلذها التأويل قال :" تِلْكَ " وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله :﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾.
قوله :" بِالْحَقِّ " يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول " نَتْلُوها "، أي : ملتبسةً بالحقّ، أو من فاعله ؛ أي : نتلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرور " عَلَيْكَ "، أي : ملتبساً بالحقّ.
قوله :﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
قال القرطبيُّ : خبر إن أي : وإنك لمرسل.
فصل اعلم أنَّه أشار بقوله :" تِلْكَ " إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت، وغلب الجبابرة على يد داود، وهو صبيٌّ فقير.
ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، وفي معنى قوله :" بِالْحَقِّ " وجوه : أحدها : أنَّ المراد : أن تعتبر بها يا محمَّد أنت، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون، فيما مضى، وقال " نَتْلُوهَا "، أي : يتلوها جبريل، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله :﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : ١٠].
٢٩٦
وثانيها :" بِالْحَقِّ " أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً.
وثالثها : أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة.
ورابعها :" بِالْحَقِّ "، أي : يجب عليك أن تعلم : أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى، وليس من قبل الشياطين، ولا تحريف الكهنة والسحرة، وقوله عقيب ذلك :﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
يحتمل وجهين : الأول : أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى.
الثاني : أن يكون المراد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٩٦
قال القرطبيُّ : قال " تِلْكَ "، ولم يقل " ذَلِكَ " مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و " الرُّسُلُ " نعته، وخبر الابتداء الجملة وقيل :" الرسل " عطف بيان، و " فضَّلنا " الخبر.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها قال أبو مسلمٍ : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول ﷺ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ ﷺ بأخبار الأنبياء المتقدّمين، وأقوال أُممهم لهم، كسؤال قوم موسى :﴿أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً﴾ [النساء : ١٥٣]، وقولهم :﴿اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف : ١٣٨].
وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فكذبوه، وراموا قلته، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به، وهم اليهود، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت،
٢٩٧