وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات كـ " عسى "، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى.
و " تَتَّقَونَ " أصله " توتقيون " ؛ لأنه من " الوقاية "، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في " المتقين "، ثم استثقلت " الضّمة " على " الياء " فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن " تفتعون "، وهذه الجملة أعني " لعلكم تتقون " لا يجوز أن تكون حالاً ؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول " تتقون " محذوف أي : تتقون الشرك، أو النار.
٤١٣
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع ؟ فقال : ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم.
قال : فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد ؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانا سبعة عشر.
وسئل أبو حنيف - رضي الله عنه - عن الصَّانع فقال : الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع.
وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذّابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل ؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ.
وقال آخر : عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم.
والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم ؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك.
فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله :﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ما وجهه ؟ والجواب من وجهين : الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل موجب الاحتراز، فإنه - تعالى - قال :﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ لتحترزوا به عن عقابه.
وإذا قيل في نفس الفعل :" إنه اتقاء " فذلك غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.
٤١٤
الثاني : أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا، على ما قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : ٥٦] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
فَصْلٌ في القراءات في الآية قرأ أبو عمرو : خَلَقَكُمْ بالإدغام، وقرأ ابن السَّميفع :" وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم ".
قوله :﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه : أحدها : أن يكون نصبه على القطع.
الثاني : أنه نعت لربكم.
الثالث : أنه بدل منه.
الرابع : أنه مفعول لـ " تتقون "، وبه قال أبو البقاء.
الخامس : أنه نعت النعت، أي : الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم :" يا أيها الفارس ذو الجمة " فذو الجمة نعت للفارس لا لـ " أي " ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.
والرَّفع من وجهين : أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين : أحدها : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره " الفاء ".
الثاني : عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو :" زيد قام أبو عبد الله " إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال : الذَّي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً.
و " الذي " كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل.
٤١٥