وإذا ثبت هذا فقوله :﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً﴾ يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً، والسّماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان : ٢٥].
و " جعل " فيها وجهان : أحدهما : أن تكون بمعنى " صَيَّر " فتتعدى لمفعولين فيكون " الأرض " مفعولاً أول، و " فراشاً " مفعولاً ثانياً.
والثاني : أن يكون بمعنى " خلق " فيتعدّى لواحد وهو " الأرض " ويكون " فراشاً " حالاً.
و " السماء بناء " عطف على " الأرض فراشاً " ونظيره قوله :﴿أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً﴾ [النمل : ٦١] وقوله :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [طه : ٥٣].
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور : قال ابن الخطيب : أحدها : كونها ساكنة ؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات.
الثاني : ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر ؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها، وتركيبها لما يراد.
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل.
الثالث : ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية ؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك ف'نه لا يسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليهن فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات.
الرابع : أن تكون بارزةً من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [من المياه] كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا.
٤١٦
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية، وهذا بعيد ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها، فها هنا أولى.
فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها فأولها : الأشياء المتولّدة فيها من المعادن، والنبات، والحيوان، والآثار العلوية والسّفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
وثانيها : اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرّة، قال تعالى :﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد : ٤].
وقال تعالى :﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾ [الأعراف : ٥٨].
وثالثها : اختلاف طعمها وروائحها.
ورابعها : اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي، وأغبر، قال تعالى :﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر : ٢٧].
وخامسها : انصداعها بالنبات، قال تعالى :﴿وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق : ١٢].
وسادسها : كونها خازنةً للماء المنزل، قال تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾ [المؤمنون : ١٨].
وسابعها : العيون والأنهار العظام.
وثامنها : ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ [ق : ٧].
وتاسعها : أن لها طبع الكرم ؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة : ٢٦١].
وعاشرها : حَبَاتها بعد موتها ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ [يس : ٣٣].
الحادي عشر : ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق، ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ [البقرة : ١٦٤].
الثانية عشرة : ما فيها من النبات المختلف ألوانه، وأنواعه، ومنافعه :﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق : ٧].
وفي اختلاف ألوانها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها
٤١٧