وقال الأصمُّ : المراد منه الإنفاق في الجهاد.
وفي المراد من البيع هنا وجهان : أحدهما : أنَّه بمعنى الفدية كما قال :﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ﴾ [الحديد : ١٥] وقال :﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة : ١٢٣]، وقال :﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ﴾ [الأنعام : ٧٠] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب.
الثاني : أن يكون المعنى : قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال.
﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى :﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف : ٦٧] وقال ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة : ١٦٦].
وقوله :﴿وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله :﴿وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور : أحدها : أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه.
قال تبارك وتعالى :﴿لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس : ٣٧].
الثاني : أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ] ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ [الحج : ٢].
الثالث : أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما ؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما.
وقوله :﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ولم يقل " والظَّالِمُونَ هم الكافرون ".
وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً : أحدها : أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق.
قال القاضي : هذا التأويل غير صحيحٍ ؛ لأن قوله :﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم.
والجواب : أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى ؛ لأنَّ غير
٣١٢
الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال.
الثاني : أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى :﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف : ٤٩].
الثالث : معناه : أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة.
الرابع :﴿الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان ﴿هَـاؤُلا ااءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ [يونس : ١٨] وقالوا :﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر : ٣].
الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى :﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً﴾ [الكهف : ٣٣] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر.
السادس :﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه.
ذكر هذه الوجوه القفال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٠٩
اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد.
قوله تعالى :﴿اللَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي : ما إله إلاَّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه، نصب على الاستثناء.
وقيل :﴿اللَّهُ﴾ مبتدأٌ، و ﴿لاَ إِلَـاهَ﴾ مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود.
و ﴿الْحَيُّ﴾ فيه سبعة أوجه : أحدها : أن يكون خبراً ثانياً للجلالة.
الثاني : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي : هو الحيُّ.
٣١٣