الإشكال الثالث : أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك ؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ.
الإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه ؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز.
الإشكال الخامس : أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب ؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا : إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم : أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً ؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً ؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ.
قال ابن الخطيب : وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول : لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا
٣٤٤
بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر ؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك]، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى ؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[قال القرطبيُّ : وروي في الخبر أن الله تعالى قال :" وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ.
" ] " قوله :﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ الجمهور :" بُهِتَ " مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من " قَالَ "، أي : فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع :" فَبَهَتَ " بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -، و " الَّذِي " هو المفعول، أي : فبهت إبراهيم الكافر، أي : غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي : بهت الكافر إبراهيم، أي : لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي : سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ.
والثاني : أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة :" فَبَهُتَ " بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش : فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ : بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها.
قال عروة العدويُّ :[الطويل] ١١٩٢ - فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً
فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٦


الصفحة التالية
Icon