فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى :﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ [الأنبياء : ٤٠].
٣٤٥
والبَهْتُ : التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث :" إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ "، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه.
ومعنى الآية : أنَّه : بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً.
قوله :﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي : يحتمل وجوهاً : منها : أنه لا يهديهم ؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
ومنها : لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف.
ومنها : لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة.
والجواب عن الأول : أنَّ قوله :" لاَ يَهْدِيهِمْ " إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً ؛ إذ لا حجاج على الكفر.
وعن الثاني : أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال : إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم.
وعن الثالث : أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال : إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلا اائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا ااْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام : ١١١].
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٦
هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو " أَوْ " وهي هنا للتفضيل، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين " أَوَ " بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام.
٣٤٦
وفي قوله :" كَالَّذِي " أربعة أوجهٍ : أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى :﴿قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون : ٨٤ - ٨٥] ثم قال :﴿مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون : ٨٦ - ٨٧].
فهذا عطف على المعنى ؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات ؟ ! فقيل لله ؛ وقال الشَّاعر :[الوافر] ١١٩٣ - مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ
فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا
فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية : هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم ؛ كقوله :[الطويل] ١١٩٤ - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ
بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ
وقول الأخر في هذين البيتين :[الوافر] ١١٩٥ - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ
وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ
بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه " وَلاَ بِحَقَلَّد "، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه " وَلاَ مُتَدَارِكٍ "، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه.
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ :" أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي "، فحذف لدلالة " أَلَمْ تَرَ " عليه ؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى.
٣٤٧
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ ؛ كهي في قوله :﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى : ١١]، وقول الآخر :[السريع أو الرجز]
١١٩٦ - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ
والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ.
وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة.
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ ؛ وهو مذهب الأخفش.
قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ.
وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب.
منها : معادلتها في الفاعلية بـ " مِثْل " في قوله :[الطويل] ١١٩٧ - وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ
ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤٦


الصفحة التالية
Icon