عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه، ومعنى ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح، ففعلتُ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً ؛ ليطمئن قلبي بإجابتك، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة ؟ أَي : ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام، لا نفس الإِحياء].
قال ابن الخطيب : وها هنا سؤالٌ صعبٌ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا.
فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم.
وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا : المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أمَّا إذا قلنا : المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ.
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - ﷺ - قال :" نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله.
وقال : نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى ".
حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث : لم يشكَّ النبي - ﷺ - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى، وإنَّما شكَّا أنه : هل يجيبهما إلى ما سألاه ؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ " اعترافٌ بالشكِّ على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول : إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله، على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع، وهضم النَّفس، فكذلك قوله :" لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان ؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
٣٦٨
وقيل : لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم : شكَّ إبراهيم، ولم يشك نبيُّنا، فقال رسول الله - ﷺ - هذا القول تواضعاً منه ؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
[قال القرطبيُّ : اختلف النَّاس في هذا السؤال : هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ، أم لا ؟ فقال الجمهور : لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ، وإنَّما طلب المعاينة ؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ؛ ولهذا قال - عليه السلام - :" لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ " رواه ابن عباس قال أبو عمر : لم يروه غيره].
قوله :﴿مِّنَ الطَّيْرِ﴾ في متعلِّقه قولان : أحدهما : أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة، تقديره : أربعةً كائنةً من الطير.
والثاني : أنه متعلقٌ بخذ، أي : خذ من الطير.
و " الطير " اسم جمع، كركبٍ وسفر، وقيل : بل هو جمع طائرٍ، نحو : تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن.
وقيل : بل هو مخفَّف من " طَيَّر " بتشديد [الياء]، كقولهم :" هَيْن ومَيْت " في " هَيِّن ومَيِّت.
قال أبو البقاء رحمه الله :" هو في الأصل مصدر طارَ يطِير، ثم سمِّي به هذا الجنسُ ".
فتحصَّل فيه أربعة أقوال.
وجاء جرُّه بـ " مِنْ " بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة، ويجوز الإضافة كقوله تعالى :﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ [النمل : ٤٨] ؛ وقال ذلك القائل :[الوافر] ١٢١٢ - ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ
لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٤
٣٦٩